تعازينا الحارة للبساطة والسلاسة والعمق. تعازينا للحرف والقافية والوزن. تعازينا للحكمة والتلقائية والصعلكة. تعازينا لشعر النظم وشعر المحاورة. تعازينا لعشاق الشعر الحقيقي ومتذوقيه. تعازينا لأهله ومحبيه. تعازينا لعشاق فرائده. تعازينا لشعراء المعلقات السبع في وفاة حفيدهم سعد بن جدلان الأكلبي.
رحم الله كبير سحرة الشعر الشعبي في هذا العصر. رحم الله من كان يزرع كلمة “كيف” في ألسنتنا. إذ كنا، بعد كل قصيدة ينشرها، نتساءل بحواجب مرتفعة: كيف توصل إلى هذا الوصف؟ كيف تمكن من هذه الصياغة؟ كيف أوتي كل هذا، من دون تعليم ولا ثقافة حديثة ولا سفر ولا قراءة، ولا اطلاع على ثقافات الشعوب الأخرى، ولا يحزنون؟ كيف وكيف وكيف؟
ويقول الشاعر، الساحر الآخر، فهد عافت: “إذا لم ينصف التاريخ سعد بن جدلان، فالعيب في التاريخ”، وأقول لفهد: “الأكلبي هو واحد من أهم مَن كتبوا تاريخ الشعر في الجزيرة العربية، هو واحد ممن صنعوا التاريخ، هو واحد من أبرز سادة التاريخ، والتاريخ لا يتنكر لسادته وأعمامه. فإن بدا عليه اللؤم وأنكر الأكلبي، سألناه: مَن صنعك إذاً؟”، قبل أن نستعين بالشعر شاهداً على نذالة التاريخ، فيفضحه ويكشف جحوده وإنكاره.
وكنت ومازلت أقول “الجزالة جنوبية”، أقصد جنوب شبه جزيرة العرب، مع عدم إنكار وجود إبداع متناثر هنا أو هناك، من الشرق أو الغرب أو الشمال، لكن عاصمة الجزالة في الجنوب. وأظن أن عمالقة الشعر من أهل الشمال أو الشرق أو الغرب لن يختلفوا معي في هذا. وبما أن الأكلبي جنوبي، وأهل الجنوب يتحدثون شعراً، لذا فهو مثل بائع الماء على ضفاف النهر، ومثل الساخر محمود السعدني بين الساخرين المصريين، ومثل اللاعب ميسي بين اللاتينيين، ومع ذلك استطاع هؤلاء تكوين ثروة من بيع ماء إبداعاتهم.
واللافت للنظر وللخيبة، هو أن قليلاً من قصائده انتشر خارج الخليج العربي، بعد أن تغنى بها الفنانون الخليجيون. وتُرك الجزء الأكبر من قصائده من دون غناء. والسبب، كما قلت سابقاً، وغضبت مني جماهير راشد الماجد وعبدالمجيد عبدالله، هو أن المعضلة الكبرى لكثير من الفنانين تكمن في رداءة ذائقتهم وثقافتهم الشعريتين. ولو كانوا ذوي ذائقة متميزة لتزاحموا بالمناكب على باب الأكلبي، إضافة إلى أنهم (أقصد الفنانين) يبحثون عن الشعر المباشر الخالي من الجماليات، كي يسهل فهمه على المراهقين وغير المتحدثين بلهجات أهل الخليج، بينما تغوص قصائد الأكلبي في العمق والوصف والاستعارة والتشبيه والكناية والتصوير وكل مجمّلات الشعر ومزيّناته، من دون مبالغة ولا تكلف.
وإن مات سعد فإن قصائده لن تموت، كما هو حال قصائد المتنبي والنابغة وامرئ القيس، وبقية عمالقة الشعر العربي.