كم كان مؤثرا أن تجلس في مؤتمر دولي ولا يكون سعود الفيصل حاضرا فيه، بل هو مؤتمر عن الغائب الحاضر. ولا أبلغ من أن نقول كما قال أخوه خالد الفيصل في قصيدته: ما هي سوى ما بين هذا وهذاك.. الله خلق ثم فرق بين الأجناس. حضرت أمس الأول المؤتمر الدولي “سعود الأوطان”، برعاية الملك سلمان بن عبد العزيز، وذلك في قصر الملك عبد العزيز للمؤتمرات، بتنظيم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. يومان صاخبان استمعنا فيهما لشهادات وذكريات ضمتها الجلسات الرسمية وغير الرسمية ضمن المؤتمر من الدبلوماسيين والسياسيين الذي شهدوا بعضا من تاريخ سعود الفيصل. يومان ضما محاور خمسة وهي لا يمكن بطبيعة الحال أن تغطي تاريخ عميد الدبلوماسيين وإن غطت الجلسات جانبا لا بأس به مما يمكن الاستشهاد به على المستوى الإقليمي والدولي. جاء هذا المؤتمر الدولي شهادة بسيطة لما قدمه طوال عقود من تأسيس عميق للدبلوماسية السعودية بقوتها التي ميزت المملكة في نحو قرن مضى.
ناقشت الجلسات خمسة محاور أساسية تناولت مسيرة الأمير سعود الفيصل ـــ رحمه الله، العلمية والمهنية، استعرضت جوانب لا يمكن أن تغفل منها إسهاماته في التنمية السعودية، ونماذج من جهوده الدبلوماسية، وجهوده في ترسيخ الأمن الإقليمي، وجهوده في مكافحة الإرهاب والرؤية السياسية عند سعود الفيصل، وإسهاماته في الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومكافحة ظاهرة الإرهاب والتطرف.
وقد شهد الفيصل خلال عمله وزيرا للخارجية بعض أشد المراحل تحديا، وكانت سياسته السلام بعيدا عن المساومات، فهو ممن قام بدور حيوي وفاوض على إنهاء الحرب الأهلية في لبنان بصفته مهندس اتفاق المصالحة اللبنانية، والتي تحققت من خلال اتفاق الطائف لتنتهي بذلك سنوات طوال من الصراع الدموي والتناحر بين مكونات الطوائف والأحزاب اللبنانية، واضعا بذلك أساسا جديدا لاستقرار لبنان. كما ساعد على إطلاق مبادرة السلام العربية، وتحرير الكويت إبان الغزو العراقي. حقيقة ملف القضايا السياسية والدبلوماسية في ملف الراحل الإنساني لا تحصى ولا تعد بدليل أنه عاصر الكثير من وراء الخارجية العالميين المخضرمين وشاركهم الكثير من القضايا السياسية ذات الوزن الثقيل ومن هذا المنطلق لقبته الصحف الأمريكية خاصة “واشنطن بوست” الواسعة الانتشار بأنه أقدم وأعقل وزير خارجية في العالم، ليس بطول مدته وزمنه، بل بحنكته ورجاحة عقله وذكائه الخارق.
شملت الجلسات استعراضا لذكريات شهود على مواقف الأمير الراحل، من دول مختلفة، ذكريات تلمس جانبا مهنيا وآخر شخصيا وجميعها جزء من تاريخه المهني الحافل، وهي في مجملها تستحق التوثيق بجدارة كقصة أمير ملهم نبيل ونادر. ولا شك أن أجيالا من القادة والدبلوماسيين في العالم استفادت من قدرات وحنكة وكاريزما ودبلوماسية سعود الفيصل. وإن رحل عنا، فإن إرثه باق ومشهود، هو العميد الذي لا يرحل.