يفتخر المسلمون، أو أغلبيتهم، بقدماء علمائهم. فهؤلاء هم القشّة التي تربطهم بحضارات الأمم، وتشعرهم بشيء من الفخر. كما تدرّس سير وأعمال هؤلاء العلماء المسلمين، كابن سينا والفارابي والكندي وابن هيثم وابن رشد، مروراً بابن المقفع والجاحظ، والمعري، وغيرهم كثير.. تدرّس في المعاهد والجامعات، شرقاً وغرباً. فليس هناك من ينكر فضلهم على البشرية في الطب والفلسفة والأدب، وغير ذلك من إبداعات إنسانية.
ولكن فئة أخرى، قد تقل عن الأولى عدداً، ولكن تفوقها مالاً ونفوذاً، ترى أن جميع هؤلاء العلماء تقريباً هم كفرة وزنادقة، ويستحقون في غالبيتهم ما انتهت إليه مصائرهم، وما لحق بآثارهم من دمار. وخير شاهد على ذلك ندرة المؤسسات الطبية أو العلمية التي تحمل أسماء هؤلاء الأفذاذ، وحتى تسميات الشوارع و«الزنقات» لم ينَلْهم شيءٌ منها، مقارنة بكمّ هائل من التسميات التي حظي بها «نكرات»، لا لشيء إلا لعدم رضا المتشدّدين عن سيرة هؤلاء العلماء. أما ما نراه في الكويت من إطلاق تسميات بعضهم على مستشفيات وشوارع، فقد حدث ذلك في الزمن الجميل، ولو كان بإمكان المتزمّتين، من «الإخوان المسلمين» وغيرهم إزالتها لما تأخّروا في ذلك.
ربما يعتبر العالم والفقيه والشاعر والكاتب أبو علي سينا مثال العالم المضطهد، على الرغم من عظيم شهرته في تاريخ الطب الإسلامي، فلا يوجد مثقف لم يسمع به. ولكن كل منجزاته لم تشفع له، حيث حاربه المتشدّدون وكفّروه، لأنه تجرّأ وتطرّق إلى مواضيع دينية يرونها حكراً عليهم. كما يأخذون عليه اشتغاله بالفلسفة، وهي مهنة الملاحدة، كما يحب البعض وصفها! ولهذا منعوا، في أيامنا السوداء هذه، حتى تضمين سيرته مناهج المدارس!
قال الإمام الذهبي في ابن سينا إنه كان له كتاب الشفاء الطبي، وفيه أشياء لا تحتمل. كما كفّره الغزالي، مثلما كفّر قبله الفارابي. وقال فيه ابن قيم إنه اتبع مذهب أرسطو، وإنه من الملاحدة. ووصفه ابن صلاح بأنه شيطان من شياطين الإنس. أما الكشميري، فقد قال إن ابن سينا ملحد زنديق قرمطي. ويطول الكلام في ذكر ما نال هذا العالم من قدح من معارضيه الذين لم يروا فيه إلا قرمطيته وانشغاله بالفلسفة. وما نال ابن سينا نال بقية العلماء والفلاسفة العرب والمسلمين، وبالتالي أصابنا هذا الأمر بحيرة، فهل نفتخر بهؤلاء ومنجزاتهم ونعترف بأفضالهم، أم نهيل التراب على سيرهم، ونمحوهم من الذاكرة؟!
وبالمناسبة، هل لو أصيب أحد هؤلاء، الذين يكفّرون اليوم ابن سينا بمرض، تطلب نقله إلى مستشفيات ألمانيا أو فرنسا، فسيهتم بالسؤال عن الخلفية الدينية والفلسفية للأطباء الذين سيقومون بتقديم أفضل العلاج له، وبينهم حتماً كمّ من غير المؤمنين والكفرة، أم سيغضّ الطرف، ويتناول أدويتهم صامتاً وشاكراً عظيم إبداعهم، أم سيرفض، بحجة أنهم كفرة؟!
لا شك في أن مصلحته الشخصية وصحته هنا أولى بالاهتمام. وبالتالي، فإن ذنب الأطباء الكفرة هنا مغفور، وإثمهم مقبول، وكفرهم محمود، طالما أن شفاءه بيدهم. أما ابن سينا، فليذهب إلى الجحيم!