ربما كان السبب في انتشار مقابلة تلفزيونية مع النائب العراقي مشعان الجبوري، عضو لجنة النزاهة بالبرلمان العراقي، هو الصراحة المذهلة والمفاجئة والتي وجد فيها آلاف الناس «كشفاً واضحاً» لأسباب الفساد، ليس في العراق فحسب، بل في كل العالم العربي والإسلامي.
العراق الشقيق، تحيطه المآسي من كل حدب وصوب… مراحل سياسية متعاقبة ذاق فيها الشعب العراقي الويل منذ الحرب العراقية الإيرانية إلى الغزو الصدامي الغاشم للكويت إلى الاحتلال الأميركي، ثم لايزال هذا الوطن الجريح ينزف دماً من كل أنحائه: «داعش» والميليشيات المسلحة والإرهابيون وتجار الأسلحة من جهة، ومن جهة أخرى، الأزمة الاقتصادية الكبرى المصحوبة بكارثة «الفساد» الذي ليس له مثيل حتى الآن… كيف؟
ربما كشف النائب الجبوري – إن صح الوصف – أكاذيب صناديق الفساد العربي وبهرجة «التمثيل الكريه» لمكافحة الفساد، ومنها تلك الصناديق المنتشرة في الكثير من مكاتب ومرافق الوطن العربي التي تتيح الفرصة للناس لتقديم البلاغات ضد الفساد وحالاته وأقطابه، و»زعماً»، توفير الأمان والسرية لمن يقدم بلاغات ضد الفساد، وكلها كما وصف أحدهم: «ذات مدخلات كبيرة ومخرجاتها (صفر)»… أي أن حجم المعلومات والحالات كبير، لكن الفاسد يبقى في مكانه أو يُنقل بالسلامة إلى مكان آخر… أما أن يحاكم ويسجن فهذا لا يحصل إلا نادراً.
النائب مشعان الجبوري كان يجيب عن سؤال مقدم البرنامج عمّن يدير الفساد فقال: «نحن في لجنة النزاهة نفتح ملفات… ثم يقدمون لنا رشوة فنغلقها!»، وحين سأله: «هل أخذت رشوة؟»، قال: «أي والله… بشرفي أخذت… عطوني رشوة حتى أسكر ملف… ما قبلت أسكره… أخذت كم مليون دولار وما سكرت الملف… ما أعتبرها رشوة… أعتبرها أنني ضحكت على الكلب بن الكلب الفاسد»، ولم يكن موارباً في الإجابة عن سؤال: «من المفسد؟»، فقال… كلنا مفسدون.. اللي لابس عقال واللي لابس عمامة والأفندي… والذي ليس بفاسد، فهو جبان «ما يقدر يفك حلقه».
الطامة الكبرى، أن الجبوري يؤكد أن لا أحد يستطيع مواجهة الفساد، فحتى من يرفع دعوى يتم اختطافه… فهذا المواطن العراقي من أحد أهالي بغداد الذي كان «يهوس» في المظاهرات اختطفوه ولا ندري أين هو؟ وحتى القضاء، لو فتح القاضي «قضية فساد» يُختطف ويُطاح به، وحتى رئيس مجلس القضاء لو فعل ذلك «يصوتون ضده ويُطاح به»، فالفساد في العراق مثل «وباء إيبولا»، ونحن في مجتمع «اللي يبوق ويرجع بيته يحمل جنتطتين… يدخل ويقول لعائلته انطوني رشوة فتقوم أسرته بالتصفيق له»… أما سبب الفساد والدمار فهي الطبقة السياسية.
انتهى أعلاه محتوى مقابلة الجبوري، وقد يتفق البعض معه فيها وقد يختلف بعض آخر، لكن على وجه العموم، فإن الجزئية التي لا يمكن إغفالها هي أن التستر على الفساد والمفسدين أمر ملحوظ في الوطن العربي والإسلامي، وإذا رجعنا إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد للعام 2003، فمفهوم الفساد يشمل الممارسات الفعلية على أرض الواقع كالرشوة بجميع وجوهها في القطاعين العام والخاص، والاختلاس في القطاعين العام والخاص، والمتاجرة في النفوذ، وإساءة استغلال الوظيفة، والإثراء غير المشروع، وغسل العوائد الإجرامية، وإخفاء الممتلكات المتأتية من جرائم فساد، وإعاقة سير العدالة فيما يتعلق بهذه الجرائم، بالإضافة إلى أفعال المشاركة والشروع بكل ما سبق.
وكل تلك الحالات قائمة منذ سنين في الكثير من البلدان، عربية وغير عربية، بنسب متفاوتة، لكن أحد أساتذة الاقتصاد بجامعة القاهرة وهو محمود عبدالفضيل في كتابه «مفهوم الفساد ومعايير»، حدد الأشكال الأكثر انتشاراً في الوطن العربي ومنها: تخصيص الأراضي من خلال قرارات علوية تأخذ شكل العطايا لتستخدم بعد في المضاربات العقارية وتكوين الثروات، وكذلك تدوير أموال المعونات الخارجية للجيوب الخاصة، حيث تشير بعض التقارير إلى أن أكثر من 30 في المئة منها لا يدخل خزانة الدولة، وهناك قروض المجاملة التي تمنحها المصارف من دون ضمانات جدية لكبار رجال الأعمال المرتبطين بمراكز النفوذ، ليخلص (عبدالفضيل) إلى أن ظاهرة الفساد ترتبط بشكل مباشر بالأنظمة، فالبيئة المثلى للفساد هي الأنظمة غير الديمقراطية التي تفتقر إلى مقومات الحكم الرشيد من شفافية ومشاركة فعلية ومساءلة وسيادة الحكم القانون.
ولغياب «سيادة حكم القانون» سيبقى الوطن العربي والإسلامي يعاني من «الفساد بدون مفسدين».