في غضون السنوات الخمس الماضية، أي مع اضطرب الأوضاع سياسياً ومطلبياً واجتماعياً واقتصادياً في العديد من الأوطان العربية مع موجة ما اصطلح على تسميته «الربيع العربي»، وبالطبع أنا أفضل تسميته ربيع المطالبة بالحقوق المشروعة، في غضون تلك السنوات، واجهت دولة الكويت ثلاث جبهات تهديد.
الجبهة الأولى، هي الخلايا والمجموعات الإرهابية أياً كان انتماؤها المذهبي والسياسي، أما الجبهة الثانية فهي التي تشكلت من أفراد – داخل وخارج الكويت – ممن بدا واضحاً أنهم يطلقون كلمات حق يراد بها باطل ومنهم من تمت محاكمته بتهمة تهديد السلم الاجتماعي والأمن الوطني، ومنهم من عمل بنشاط واضح لإحداث «خلخلة مربكة» على الساحة الداخلية خاصة أولئك الذين «يستمتعون بالنحر»، وتأتي الجبهة الثالثة، وهي جبهة التهديد «المفيدة»، ونقصد بها الأصوات التي حذرت وهددت ونبهت الحكومة الكويتية للاهتمام بقضايا حقوق الإنسان ومكافحة الفساد والمفسدين وردع المؤججين والمؤزمين… لكن حكمة قيادة دولة الكويت بقيادة سمو الأمير صباح الأحمد الصباح، الله يرعاه، تعاطت بهدوء وتخطيط مع كل تلك الأحداث والتي لايزال بعضها يشكل مصدر تهديد إلا أنها تحت النظر… وبحكمة أيضاً.
ترى ما الذي تتفق عليه القيادة الكويتية ومجلس الأمة في أن «يُترك جانباً»؟ والإجابة في لقاء أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح في لقائه الأسبوع الماضي مع أعضاء مجلس الأمة، ولخصها رئيس لجنة الأولويات البرلمانية يوسف الزلزلة في أربع توصيات ركز عليها أمير الكويت: الأولى هي ضرورة التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، والثانية هي اتخاذ قرارات اقتصادية من السلطتين لإنقاذ الوضع الاقتصادي، والثالثة هي قدرة المجلس، وإن تبقى من عمره عام واحد، على تحقيق إنجازات أكبر للمجتمع، أما التوصية الرابعة (وهي غاية في الأهمية)، التشديد على أن كل ما يثار في الخارج من حديث قد لا يليق بمجلس الأمة والحكومة بقصد ولغايات غير موجهة للمنفعة، يجب أن يُترك جانباً، وأن يكون (التركيز على مصلحة البلد).
ذلك اللقاء المهم، يعيد إلى الأذهان خطاب أمير دولة الكويت يوم الأحد (16 ديسمبر/ كانون الأول 2012) في افتتاح دور الانعقاد العادي الأول من الفصل التشريعي الرابع عشر لمجلس الأمة، وفي ذلك الخطاب مضامين تجعل الدولة – أي الكويت – (معادلة صعبة ورقم عنيد في تحدي الظروف وصيانة العمل الدستوري أياً كانت الظروف)، حتى أن الكثير من المتابعين الذين كانوا يراهنون في بعض الظروف والوقائع على (أن للكويت حكمة) كانوا أكثر الناس قراءة لما راهنوا عليه من أن حكمة القيادة الكويتية إزاء العديد من الأحداث المهمة والمقلقة وتعاملها الهادئ والحذر كان مبنياً على «تخطيط» لا على «تخبيط»، وجاءت العبارة الأولى التي تمثل غرساً من الثوابت لدى الكويتيين من أميرهم آنذاك: «أكدت أنني من يحمي الدستور ولن أسمح بالمساس به أو التعدي عليه».
الفوضى، سواء تلك الموسومة بأنها «خلاقة» أو ما دونها، لا يمكن أن تنال من مجتمع الكويت الذي يمثل «سورها» حائط صد لا يضعف مع مرور الزمن، وذلك ما «تموضع بشكل أساسي» في خطاب الأمير بتفهم «قلق أهل الكويت ومخاوفهم إزاء ما شهدته الساحة المحلية مؤخراً، من مظاهر الفوضى وتجاوز القانون والانحراف في الخطاب السياسي التي لم نألفها من قبل، وهي غريبة وطارئة على مبادئ مجتمعنا الكويتي وأعرافه الراسخة وما عرف به من قيم الاحترام المتبادل والاعتدال والتسامح وقبول الرأي والرأي الآخر، ولاشك في أن إيماننا راسخ بحرية التعبير عن الرأي، ويتسع الصدر لكل رأي مخالف أو نقد إيجابي يستهدف الإصلاح، على أن يكون في إطار القواعد والشروط التي يحددها القانون وهي قواعد تنظيمية لا تنفرد دولة الكويت بها بل تعمل بموجبها كل الدول الديمقراطية الحرة تجنباً للفوضى والمساس بالأمن والاستقرار». انتهى الاقتباس.
الرسائل الثلاث التي اختارها أمير الكويت بدقة قبل ثلاث سنوات، أي في العام 2012، هي بمثابة «توصيات» يمكن أن تكون سياجاً وطنياً منيعاً في تجنيب الأوطان كل ما يمكن أن يداهمها من أخطار، وفي تلك الرسائل، منهجية يمكن تطبيقها في كل الدول إن أرادت تحقيق نجاح على صعيد الديمقراطية والحقوق والواجبات ومواجهة التحديات الاقتصادية، وكذلك مواجهة المخاطر المهددة للأمن وعلى أعلى قائمتها «الإرهاب والظلم والطائفية والفساد»، وقد جاءت الرسالة الأولى للحكومة التي ألزمها بالاعتراف بالخلل وحسن تشخيصه وتحديد أسبابه ليتسنى إصلاحه ومعاجلته على نحو سليم، بتخطيط واقعي وإعداد برنامج عمل واضح المعالم قبل الشروع في التنفيذ، إذاً، الحكومة الكويتية كبوابة أولى للإصلاح، أمام مسئولية «الاعتراف بالأخطاء وتشخيصها ومعالجتها».
في ظل كل التحديات، لم تغفل القيادة الكويتية «الاحتقانات والجدل العقيم والنزعات الطائفية والقبلية؟» وكأنها كانت تقرأها بدقة ومبكراً، هذه واحدة من التأكيدات الجوهرية والمصيرية التي ألقى ثقلها على مجلس الأمة، وهي مسئولية إصلاح المؤسسة التشريعية وتعزيز دورها الايجابي الحيوي في دفع مسيرة الإنجاز الوطني وتصويب ممارسة العمل البرلماني وتنقيته من الشوائب التي تعوق أداء دوره الحيوي في التشريع الايجابي والرقابة الموضوعية الجادة والنأي به عن النزعات الطائفية والقبلية والفئوية والمصالح الضيقة وضمان الارتقاء بلغة الحوار، وتجاوز الجدل العقيم الذي يبدد الجهد والوقت والطاقات والعمل على احترام الحدود الفاصلة بين السلطات، وتفعيل التعاون الحتمي البناء مع الحكومة لإزالة كل أسباب الاحتقانات التي تعرقل تكامل الجهود وانسجامها وتدفع عجلة الانجاز… تلك المضامين تستحق التأمل… أليس كذلك؟