عندما حرض سارتر قوات الأمن الفرنسية على عدم إطاعة الأوامر العسكرية بضرب الثوار الجزائريين أثناء حرب تحرير الجزائر لإيمان الفيلسوف المناضل بحق الشعب الجزائري في الاستقلال، وجهت السلطات الفرنسية تهماً جنائية له بهدف سجنه، عندها بادر الرئيس ديغول بالعفو عنه وقال: “لا يصح بفرنسا أن تسجن فولتير”، أيضاً بذلك الوقت تعرضت صحيفة فرنسية “ماوية” (نسبة للزعيم ماوتسي تونغ) لتهديدات بالإغلاق، بعد أن تخصصت في النقد والهجوم على السلطة الفرنسية، ورغم أن سارتر الذي كان يرأس وينشر مع فلاسفة آخرين مجلة “الأزمنة الحديثة” لم يكن متفقاً مع الخط السياسي “الماوي”، فإنه بادر حينها بترؤس تحرير تلك الجريدة الماوية بغرض حمايتها من الإغلاق، فاسم الفيلسوف وشهرته بحد ذاتهما يفرضان نوعاً من الحصانة الأدبية لتلك الجريدة، مواقف لا تحصى للروح النضالية لسارتر كتوسطه للأديب اللص والمنحرف جنسياً جان جينيه عند الرئيس الفرنسي ليعفو عنه (ولجان جينيه، فيما بعد، مواقف لا تنسى بالوقوف مع القضية الفلسطينية ومساندته ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا)، ومشاركته (سارتر) في مظاهرات ضد حرب فيتنام، وكان محرضاً وخطيباً في تمرد 1968 بفرنسا (ثورة الطلاب)، وغير ذلك من مواقف كثيرة تشهد إيمان ومصداقية الفيلسوف الأديب لما كتب ودعا إليه.
عند سارتر مهمة الكاتب أن يكون ملتزماً بالحقيقة كما يراها، حين يكون هذا الإنسان أو الكاتب ليس صاحب نية سيئة، “باد فيث” Bad faith، هنا ليست بالمعنى القانوني لهذا التعبير، وإنما بمعنى “خداع الذات”، فنحن نخدع ذواتنا عندما نقنع أنفسنا بمعتقدات مريحة كي نسلك سكة السلامة فكراً وسلوكاً، فمثلاً حين أقرر أن شخصاً ما (مثلاً الرسام عمر عريمان) خرق قانوناً كقانون أمن الدولة أو إتلاف الأموال العامة، وبالتالي فهو يستحق العقوبة، رغم اعتقادي أن هذا القانون (أو غيره من قوانين) هو قانون جائر وينتهك حقوق الإنسان خصوصاً حين يكون هناك نوع من الانتقائية بتفعيل نصوصه، عندها أكون صاحب نية سيئة، حسب مفهوم سارتر، فأنا أعلم الحقيقة ومع ذلك التفت عنها، وأساير (ربما) السلطة السياسية أو الاجتماعية، واستعمل عبارات مبهمة وغامضة كي أتجنب المواجهة المكلفة.
لو تأملنا قليلاً مثل الأنظمة العربية التي عادت إليها الروح بعد قمع ثورة الربيع العربي، هل يمكن أن نجد روحاً متمردة رافضة مثل سارتر (رغم التحفظ عن مواقفه في القضية الفلسطينية)؟! لو حدث أن لدينا سارتر عربياً أو خليجياً، هل يقدر لهذا الفيلسوف أن يكتب عن الوجودية وعن الحرية، وعن العبث، والالتزام، والقمع والتمييز العنصري، ويناضل من أجل قناعته دون ملاحقة السلطة السياسية القمعية أو السلطة الاجتماعية المنغلقة…؟ هل نتخيل مثل هذا؟ أم أن سارتر ما كان ليوجد لولا ديغول مثلاً؟ وقبل ديغول مناخ ثقافة الحرية بفرنسا وأوروبا بوجه عام… لنتذكر الآن كثيراً من المناضلين عندنا الذين انتهوا بالسجون أو الطرد من أوطانهم… وانتهت حرياتهم، وانتهت الحرية “السارترية”… ورغم ذلك يبقى هناك أمل بالمشاغبين حين يخرجون عن طوع السلطة ناشرين كلمة “لا” كبيرة في ثقافة الجمهور الخاملة.