البرازيل، سابع أكبر اقتصادات العالم، وأحد أعضاء مجموعة BRICS، التجمع الاقتصادي الذي يشكل إحدى المجموعات الاقتصادية الرئيسة في اقتصاد العالم، التي يواجه أعضاؤها مصاعب اقتصادية بصورة أو أخرى، إلا أن ما تواجهه البرازيل يختلف بشكل جوهري عما يواجهه باقي الأعضاء. البرازيل تواجه حاليا ظروفا اقتصادية استثنائية ترتب عليها تدهور عنيف في أدائها الاقتصادي.
ففيما بين عامي 2011 و2015 تراجع الناتج المحلي من نحو 2613 مليار دولار إلى 1776 مليار دولار. وفي عام 2015 انخفض النمو الحقيقي للناتج بنحو 3.8 في المائة، كما يتوقع أن ينخفض النمو بمعدل مماثل في 2016. هذا التراجع يعود إلى انخفاض أسعار السلع التجارية وتراجع النمو في الاقتصاد العالمي، بصفة خاصة في الصين حيث انعكست آثار ذلك بشكل واضح على الاقتصاد البرازيلي، فالصين هي الشريك التجاري الأكبر للبرازيل، وصادرات البرازيل للصين في تراجع مستمر مع تراجع الطلب الصيني على المواد الأولية، حيث تراجعت الصادرات بنسبة 15 في المائة في 2015.
من الطبيعي أن ينعكس تراجع النمو على متوسط نصيب الفرد من الدخل الذي انخفض بين عامي 2011 و2015 من 13237 دولارا إلى 8689 دولارا فقط. من جانب آخر فإن أوضاع سوق العمل تشير إلى ارتفاع معدل البطالة إلى 9.5 في المائة في 2015، بينما تراجعت مستويات الأجور بنسبة 2.4 في المائة، وهذه التطورات تنعكس سلبا على الطلب الكلي ومن ثم فرص النمو، فقد تراجع الطلب المحلي بنسبة 6.8 في المائة، بينما تراجع الاستثمار بنسبة 14.1 في المائة والإنتاج الصناعي بنسبة 8.3 في المائة.
رغم كل هذه الضغوط الانكماشية، فإن التضخم يرتفع الى مستويات عالية، حيث بلغ 9 في المائة في 2015، ويتوقع أن يصل المعدل إلى نحو 17 في المائة في 2017، مع التدهور الواضح لقيمة الريال البرازيلي الذي انخفض إلى النصف تقريبا بالنسبة للدولار فيما بين عامي 2011 و2015، وهو ما يعني أن البرازيل تعاني تراجع معدل النمو وارتفاع معدل التضخم في الوقت ذاته.
الوضع المالي للبرازيل أكثر قتامة، حيث يصل عجز الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي حاليا إلى نحو 10 في المائة، وهو معدل مرتفع جدا، وهذه النسبة مرشحة للتزايد، نظرا لضعف قدرة صانع السياسة المالية على التحكم في الإنفاق نظرا لأن جانبا كبيرا منه محصن قانونيا، كما أن هناك قيود على نسبة العجز المستهدف للميزانية، وقد طلب وزير المالية من الكونجرس توسيع نطاق العجز المستهدف للميزانية لكي يتوافق مع الصعوبات الحالية التي تواجهها المالية العامة للدولة.
ارتفاع العجز ينعكس على ديون البرازيل، التي تتطور على نحو أسوأ. فخلال العقد الماضي ارتفع الدين الحكومي إلى نحو تريليون دولار وهو ما يرفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي الى نحو الثلثين تقريبا، وهناك توقعات ببلوغها نحو 80 في المائة من الناتج. هذا التسارع في نسبة الدين إلى الناتج يشكك في قدرة الاقتصاد البرازيلي على خدمة هذه الديون في ظل تراجع معدلات النمو الاقتصادي التي نشهدها حاليا، وارتفاع معدلات الفائدة، حيث يصل معدل الفائدة الأساسي إلى 14.25 في المائة، وهو معدل مرتفع جدا، ونظرا لأن معظم الدين هو دين محلي، ترتفع تكلفة خدمة هذا الدين، ونظرا لأنه لا يمكن بنمو سالب أن تتمكن البرازيل من الوفاء بخدمة ديونها على نحو كامل، فقد أقدمت بعض مؤسسات التصنيف الائتماني على تخفيض التصنيف الائتماني للسندات الحكومية البرازيلية إلى درجة السندات غير المرغوب الاستثمار فيها Junk Bonds.
الموقف المالي الصعب الذي تواجهه الحكومة، تواجهه أيضا الشركات العامة العاملة في البرازيل، التي تتزايد ديونها، وتحوم حولها شبهات فساد، ما يعقد مناخ أعمالها، وقد أعلن بعضها إفلاسه بينما يحقق البعض الآخر خسائر.
الوضع، كما يتضح من التحليل أعلاه، يشير إلى أن هناك تدهورا سريعا في الأداء الاقتصادي يعد الأسوأ بين مجموعة الدول الغنية. ولكن هذا التراجع يعقد من آثاره ما تواجهه البلاد من أزمة سياسية طاحنة. فشعبية رئيسة البرازيل تتراجع على نحو واضح وسط اتهامات بسوء الإدارة وشبهات بالتلاعب في الحسابات المالية للدولة لإظهار الوضع المالي للدولة بصورة أفضل، مع احتمالات قوية بقرب البدء في إجراءات تنحيتها عن منصب الرئاسة. في الوقت الذي تقاوم فيه الرئيسة بشدة محاولات تنحيتها واصفة إياها بالانقلاب على السلطة في البلاد. المشكلة أن التجاذبات السياسية الحالية تستهلك وقتا كبيرا من صانعي السياسة والكونجرس وهو ما يشتت الانتباه بعيدا عن تناول المشكلة الأساسية للاقتصاد، الأمر الذي يعطل الجهود المبذولة للتعامل معها، ما يفتح المجال أمام تفاقم آثارها على الاقتصاد المتراجع.
جهود التعامل مع الأزمة لم تأت على المستوى المطلوب، فالحكومة ليس لديها متسع كبير لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتدبير الدعم المالي لإنعاش الاقتصاد مع تراجع القاعدة الضريبية، وقد اقتصرت الإجراءات المتخذة على بعض البرامج الضعيفة للإنفاق، مثل برنامج الإقراض المدعم بميزانية نحو 20 مليار دولار، لتعزيز المشاريع الزراعية ومشاريع البنى التحتية، كما أن فرص لجوء الحكومة إلى برامج تقشفية تعد محدودة أيضا، فهناك عديد من القيود على الإدارة المالية أهمها أن معدلات الضرائب تعد مرتفعة أصلا، من جانب آخر فإن قدرة الحكومة على تخفيض إنفاقها المالي محدودة.
كل ذلك يعني أن البرازيل بين نارين الآن، الأول هو الحاجة إلى برامج ضخمة للتحفيز المالي لاقتصادها، بيد أن تمويل هذه البرامج سوف يؤدي إلى حدوث عجز كبير في الميزانية بما يتجاوز المستويات المستهدفة للعجوزات وفقا للنظام الحالي، وهو ما يؤخر من فرص التعافي الاقتصادي للبرازيل. أكثر من ذلك ثم فإن الأوضاع الاقتصادية مرشحة نحو التراجع إلى الحد الذي دفع بعض المراقبين الى توقع دخول البرازيل حالة الركود الاقتصادي.
باختصار فإن البرازيل تتجه نحو أسوأ حالات الكساد التي واجهتها في تاريخها، وقد تدهورت الأوضاع الاقتصادية إلى الحد الذي أصبح البعض يرى أن التخلص من الرئيسة الحالية سيحسن من الأوضاع السياسية ومن ثم يمهد للإصلاح الاقتصادي في البرازيل على نحو أفضل، وفي الوقت الراهن تتزايد التوقعات أن الرئيسة الحالية ربما لا تشهد الأولمبياد القادم في آب (أغسطس) وهي رئيسة للبلاد.
آخر مقالات الكاتب:
- اقتصاديات التعلم الإلكتروني
- تراجع النمو في سنغافورة
- ضريبة السلع الانتقائية في دول مجلس التعاون
- اقتصاديات التصويت في الانتخابات
- ماذا يحدث لفنزويلا؟
- «جاستا» وما أدراك ما «جاستا»
- ما مغزى الاتفاق الأخير بين الصين والسعودية؟
- هل هي بداية الانتكاسة لسياسات الخصخصة في العالم؟
- المخاطر الاقتصادية لقرصنة الأدمغة
- بالون ديون العالم .. إلى أين؟