تصادف وجودي في مملكة البحرين الشقيقة في الثاني من آب عام 1991، اي في الذكرى السنوية الاولى للغزو العراقي، كنت جالسا أمام شاشة محطة تلفزيون السي. إن. إن. الاميركية ومراسلها في الكويت – من فوق سطح إحدى البنايات العالية ليلا- يصف السماء في ذلك البلد الصغير الذي تحرر منذ شهور قليلة بأنها مضاءة بعيارات نارية أكثر كثافة من تلك التي استخدمها صدام حسين ودفاعاته الجوية ضد طيران التحالف الدولي وهو يقصف.. بغداد!! تحولت كاميرا المراسل الأميركي نحو السماء فإذا بليل الكويت قد تحول الي نهار عبر قيام الآلاف من الكويتيين بإطلاق ملايين الطلقات النارية من مدافع الكلاشينكوف التي غنموها من بقايا سلاح الجيش العراقي بل وحتى العشرات من قذائف مضادات الطيران التي تبدو طلقات رصاص الرشاشات بجوارها وكأنه «بعوض يطير بجوار حمام»!! شعرت بالقلق على الكويت في الثواني الاولى لمشاهدتي ذلك المنظر، لكنني استرخيت علي مقعدي بعد ان قلت لنفسي: «انها نيران أهلي وأشقائي وليست نيران أعداء وطني وخصومي»!! كانت «نيران الفرحة» للشعب الكويتي التي ملأ بها سماء وطنه في تلك الليلة الساخنة من صيف عام 1991، لكنه لم يكن يعلم بأن نيرانا أخرى ستأكل قلبه كمدا وحزنا على بلده بعد ذلك التاريخ.. بربع قرن!! المواطنون اطلقوا الرصاص، وأهل المسؤولية أطلقوا التصريحات «سنعيد بناء بلدنا ولو كانت أطلالا لايقف فيها حجر على حجر» سنبدأ بتعليم أطفالنا وتلاميذنا وطلبتنا ولو اضطررنا أن نقيم لهم خياما يتلقون العلم تحت عواميدها سيجلسون على الارض، وسنعيدهم الي عصر الملا مرشد الي أن نرمم مدارسنا ونستعيد عافية التعليم في وطننا»!! كان هذا صاحب التصريح الاخير هو وزير التربية _ آنذاك_ الدكتور «سليمان البدر» نشرته صحيفة «الفجر الجديد» التي صدرت عقب التحرير بأوامر مباشرة من الراحل الشيخ سعد العبدالله رحمة الله وكان هو من أطلق هذا الاسم عليها والوحيدة في.. وقتها!! الآن تعالوا نرى ماذا بقي لدينا من «إرث التحرير»! « فرق تسد» مصطلح لاتيني، عسكري، سياسي، اقتصادي، عمره من عمر الانسان، وقديم قدم الحضارة السومرية والفرعونية يهدف الى .. تفكيك من تعتبرهم خصومك حتي تتعامل معهم ككيانات متفرقة، فتضرب هذا بذاك وتجلد ذاك.. بهذا فتسود أنت وتترك الباقي وكأنهم مجاميع من الديكة داخل قفص به دجاجة.. واحدة!! معظم الحكومات الكويتية التي تعاقبت على التحرير الى يومنا هذا كانت تسير على ذلك النهج السومري – الفرعوني- اللاتيني القديم ضد كل فئات مجتمعها الصغير لأنها «آمنت تماما بأنهم خصوم لا أبناء» حتي أطفأت كل نيران فرحته التي ملأ بها سماء وطنه قبل ربع قرن من.. الزمان وأشعلت بداخل صدورهم «نارا.. لظى.. نزاعة للشوى» فكسرت نفوسهم، وأذابت كبرياءهم وأغلظت قلوبهم!! توقفت كثيرا عند تحرك النواب الشيعة الاخير بمقاطعة حضور جلسات البرلمان، وظهر واضحًا أنهم شعروا بأن الدولة قد اسقطت كل جدران فئات مجتمعها التي كانت تستند على واحد منها في كل حقبة سياسية ولم يبق لها الآن الا جدار الكتلة الشيعية فقرروا الاستفادة من تلك الفرصة وطلب المزيد من «الحظوة» والمزيد من المكاسب والمزيد من التدلل فتورطت الحكومة بعد ان أسقط هؤلاء النواب التسعة آخر ورقة توت تستر عورة أصحاب المنهج القديم ..«فرق تسد»! صار لدينا الآن: حضري ناقم، وبدوي غاضب، وشيعي مقاطع، فمن بقي لـ ..«ولاة أمرنا» من الرعية؟! المحصلة النهائية شيعة يبغضون.. سنة! سنه يكرهون… شيعة! حضر يمقتون .. بدوًا! وبدو يلعنون… حضرًا! طبقة وسطى.. سحقت! لصوص يلدون.. لصوصًا وفساد يفرخ فسادًا! جبهة داخلية.. ممزقة! سمعة خارجية في الحريات… مهزوزة! بلد تسبح بالمال وشعب جف من.. الشح! «عيال غرفة» يرون أنهم «أبناء سارة» وبقية الشعب.. «أبناء هاجر»! صراع طفلين في الرياضة: طفل «التجارة» وطفل.. «المشيخة» حرم اولادنا من المتعة الحلال في ارض.. «التحريم»! برلمان قاعته مقبرة وكراسيه شواهد.. قبور! حكومة وزراؤها كالشعراء يقولون مالا يفعلون ويتبعهم.. الغاوون! «ابناء سارة» كبرت أمعاؤهم من غضب الله فصارت أكثر اتساعا من رحمته! امتصوا دم «أبناء هاجر» حتى تحولت في بطونهم الى «حميم وغساق وغسلين» ونهشوا لحوم فقرائها فتحولت في حلوقهم الى «ضريع وزقوم» ( فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ويغلبون) بلدنا على حافة السكين والنيران التي أشعلها «إخوان الشياطين وأحفاد الابالسة» في تلك الاوطان العربية الممزقة نكاد نشم رائحة رمادها داخل شوارعنا وبيوتنا! إنه «السعير» الذي لايقارن بنار فرحة ابناء الكويت حين أشعلوا سماءهم بها قبل خمسة وعشرين عاما! من ينسى الله ينسيه نفسه، وقد آن للنفس المؤمنة أن تطمئن في دنياها قبل.. آخرتها!