حنين (نوستولوجيا) إلى الماضي يضرب في أعماق نفوسنا، الماضي هو العمر الذي فات في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، أيام يتذكرها بأسى الكثيرون من جيلنا الذين جاءوا إلى الدنيا بعد الحرب الثانية وبعد تفجُّر مصادر بركة النفط. في الكويت يتذكرون الحفلات الشهرية في سينما الأندلس، يتذكرون فرقة البولشوي وأم كلثوم وفنانين عرباً كثيرين، تم تشدهم الذكرى إلى أيام عميد السياحة الراحل صالح شهاب، واستعراضات الفرق الشعبية في الساحات العامة، ثم احتفالات رأس السنة في الفنادق وتلفزيون الدولة أيام المرحوم جابر العلي وزير الإعلام حينئذ، وساعات الطرب والأنس في برامجه العديدة، يتذكرون المكتبات الزاخرة بالأدبيات الماركسية وبقربها أيضاً مؤلفات سيد قطب “في ظلال القرآن” وغيره.
وأشاهد أيضاً بين كل فترة وأخرى، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صوراً من إيران قبل الثورة عن فتيات “سبور” على الشاطئ، أو من الكويت أيام “الميني جوب”، حتى مدينة جدة في تلك الأيام كانت بلون منفتح حضارياً، والتي حلت مكان صورها الماضية مشاهد حاضرة لبعض رجال الشرطة الدينية يغمرهم فرح وبهجة شديدة وهم يهشمون آلة العود والدفوف… صور النساء في معظم الدول العربية كنَّ بلا نقاب ولا حجاب في تلك الفترة، ثم تبدلت، شيئاً فشيئاً، ليصبح النقاب أو الحجاب هما السائدين، الوجوه الحليقة للرجال بالأمس تغيرت لتكتسي باللحى الطويلة الكثة أو القصيرة المشذبة.
يرى أهل الحنين إلى أيامنا الحلوة أن الوضع المحافظ الآن هو الشاذ والاستثنائي، وهو انكفاء “ظلامي” (تعبير العديد منهم) لم يكن ليحدث لولا، ولولات كثيرة، مثل لولا الثورة الإيرانية، ولولا هزيمة 67 وإحلال القومية الدينية مكان القومية العربية، ولولا تصدُّر الأنظمة المحافظة بدول الخليج للقيم المتزمتة لمواجهة اليسار، ولولا مراهنة أميركا على الحركات الدينية المتطرفة ومساندتها أيام الحرب الباردة، ولولا العدوان الإسرائيلي المستمر، ولولا تخاذل الأنظمة العربية وقمعها لشعوبها… “لولات” دون نهاية كلها تبحت عن سبب أو أسباب لحالة التراجع الليبرالي (وكأنه كانت لدينا ثقافة ليبرالية حقيقية وهذا ما أناقشه)… ربما كلها أو بعضها تفسيرات صحيحة، لكن في النهاية، يجب أن نتساءل إن كنا نحيا فعلاً في ظرف استثنائي شاذ خرج عن المسيرة التاريخية لتطور حياة شعوب المنطقة، أم أن المنطقة في حالة طبيعية لتطورها التاريخي؟!
د. سعد الدين إبراهيم، في بداية التسعينيات، وصف المرحلة التاريخية (المنفتحة اجتماعياً لا سياسياً) بــ”اللحظات الليبرالية”، وهذا وصف صحيح، فاللحظة معناها أمر طارئ ليست له ديمومة زمنية، وإذا نظرنا إلى “لحظاتنا الليبرالية” و”نستولوجيا” تلك الأيام والسنوات فسنجد أنها هي الاستثناء، وكان الوضع الطبيعي هو المحافظة الاجتماعية الدينية الممتد من أيام الخلافة العثمانية، حتى سقوطها.
بداية اللحظات الليبرالية هي لحظة الانفتاح على الغرب وتقدمه بعد حملة نابليون على مصر، وامتدت إلى أيام محمد علي وخلفائه من بعده، لتخرج لنا لطفي السيد وإسماعيل مظهر وسلامة موسى وطه حسين… ثم تلاشت تلك اللحظات بسرعة مع انتصار فكر المودودي وحسن البنا والخميني. ويتقدم الزمن ليصل قطاره إلى محطات الربيع العربي، ثم انكساراته بفعل قوى المحافظة على الوضع القائم، وفي كل تلك المراحل والوقفات التاريخية يظل الوهم المهيمن عند الكثيرين من جماعات الحنين الليبرالي أنّ وضعنا الحالي استثنائي شاذ، ولابد من عودة حتمية إلى أيام الانفتاح الغابرة التي تمثل رغبات الشعوب العربية والإسلامية… فهل هذا صحيح؟! للكلام بقية…