حتى القليل الباقي من حريات خلق الله في الدولة أخذت السلطة تنتزعه منهم شيئاً فشيئاً، مرةً عبر سيف القوانين، وهي بطبيعتها قوانين سيئة مثل قوانين أمن الدولة أو المطبوعات، وأخرى من خلال مشروعات قوانين يتم إعدادها الآن في مطبخ المجلس الملحق بالسلطة مثل الرقابة وملاحقة وسائل التواصل الاجتماعي، أو يتم القمع عبر إجراءات بوليسية تحركها جماعات متنفذة في جوف السلطة يتمدد نفوذها وجبروتها لجل مؤسسات الدولة، وفي كل الحالات السابقة تصور تلك الإجراءات القمعية على أنها متفقة مع حكم القانون، حين يضاف لها “رتوش” الشكل القانوني، ويتم وضع مكياج الشرعية على الوجوه القبيحة للدولة التسلطية.
كتب جاسم السعدون بنبرة يأس حزينة: ” … لم يعد كافياً أن نهبط بطموحاتنا من الأمل في إنجاز شيء ما، إلى مجرد الإبقاء على الوضع ثابتاً على نفس مستوى السوء، ولا حتى القبول بمجرد خفض التسارع إلى الانحدار، وإنما بات مطلوباً قسراً مشاركتنا كلنا، ودون استثناء، بالرقص في حفلة بائسة تشهد سقوطاً حراً لبلد جميل وكريم” (مدونة سبر). فالوضع المحزن اليوم يتلخص في عجز الواعين عن المحافظة على الحد الأدنى من الحريات والحد الأدنى من حالة التدهور والفساد في مؤسسات الدولة، فلم نعد نملك حلم الإصلاح والارتقاء من الحال السيئ إلى وضع أفضل، بل حتى المحافظة على القليل الباقي لم يعد ممكناً اليوم، فالمطلوب من الجميع اليوم مواصلة الرقص مع فرق “أم أحمد العجافة” حتى يسلموا ويصبحوا بالتالي من المرضي عنهم.
ما يجري هذه الأيام، هو تعميم لحالة الاكتئاب السياسي والاجتماعي بالدولة، نجد هذا البؤس لحظة الخروج في الشارع لنصادف فوضى الغياب القانوني والتدهور الأخلاقي عند قائدي السيارات، نلتقي بعدها ببؤس الجهاز الإداري المترهل بالدولة عند إنجاز أي معاملة، فنلمس باليد عاهات الكسل، والتغيب، واللامبالاة، مع تفشي الرشوة والمحسوبيات وغيرها من أمراض مللنا تكرارها، وكلها حالات فساد مقننة، ويعلم بها ولاة الأمر، لكن لا أحد يتحرك لبترها فهم جزء منها… وعندما نلوذ ببيوتنا آخر اليوم، تصفعنا أخبار المطاردات السياسية للقلة من شبابنا، فما بين حبس احتياطي ومنع من السفر تكمل حلقة الاختناق التي نحيا بها اليوم.
ليت أهل السلطة يدركون أن أمنهم وأمن مستقبل الدولة لن يكون بالقمع وبقرارات يراد بها ترويع الناس وتدجينهم وإدخالهم في حظائر الطاعة، وإنما بإطلاق حرياتهم وتفعيل أجهزة الرقابة (لا أدري ماذا بقي منها؟) على مؤسسات الدولة، فالدينار الذي كان يغطي عورات كثيرة في الماضي وتُشترَى به ولاءات القطيع سيتلاشى مع تدهور سعر بضاعتنا اليتيمة، فماذا ستفعلون بعدئذ؟!