ما الذي يمنع الأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي من أن يكون لها خطة عمل مشتركة للتصدي لكافة أشكال التحريض الطائفي والتكفير والتشدّد الديني؟ بل ما الذي يمنع حكومات الخليج من أن يكون لها منهج وطني واجتماعي حقيقي يلجم الأبواق الطائفية المهدّدة للسلم الاجتماعي كما هو منهج سلطنة عمان الشقيقة؟
لابد من الاعتراف بكل صراحةٍ وشفافية، بأن المجتمع الخليجي يشهد تصاعداً مدمّراً لآثار الخطاب التكفيري والطائفي، والذي، وبكل صراحة أيضاً، كان يعمل وينتشر ويتصاعد في الإعلام الرسمي وفي الخطب والمحاضرات والمؤتمرات والملتقيات والإعلام الجديد والمواقع الإلكترونية بصورةٍ مسكوتٍ عنها من جانب الجهات الرسمية ذات العلاقة في دول مجلس التعاون، وعلى رأسها وزارات الإعلام ووزارات الشئون الإسلامية.
حتى وقوع الحادث الإجرامي البشع في بلدة القديح بمحافظة القطيف، والذي أودى بحياة واحد وعشرين شهيداً وعشرات الضحايا (يوم 22 مايو/ آيار) في صلاة الجمعة بمسجد الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام على يد مجرم تربّى وترعرع وتنفّس وتغذّى من الفكر الضلالي التكفيري المتشدد المعادي للإسلام وللحياة. وقبل الحدث وبعده، كانت مئات المنابر وعشرات الكتيبات والكتب وشاشات بعض الفضائيات الشهيرة، وآلاف الحسابات في الإعلام الجديد من «فيسبوك» و»تويتر» و»انستغرام»… وترى خطاب الكراهية والتأليب الطائفي والتكفير ينتشر بشكل جنوني، حتى يعجب المرء ويتساءل: ترى، هل حكومات الخليج بكل أجهزتها غافلة عما يحدث؟ أم أنها تعلم وتنظر بعين الرضا؟ ولماذا؟ أليس هذا الفعل يدمّر الاستقرار الوطني والسلم الاجتماعي ويمزق النسيج الوطني؟
في الإجابة على هذا التساؤل، غالباً ما تجد (وين إذنك يا حبشي) هي الأشهر! فما أن تنتقد أو تطالب بلجم هذا السلوك الشائن، سواء في منطقة الخليج أو بقية الدول العربية والإسلامية، تجد من يلف ويدور ليتحدث عن شتم الصحابة وأمهات المؤمنين والتآمر والتخابر مع دولة معادية للوطن! وكأن الذين يطالبون بالتصدي للطائفية، يهدفون للجم فئة أو طائفة أو فئة. إن المطلب الأول الذي لم يتحقق، وربما لن يتحقق إلا إذا كان لدى حكومات الخليج هذه القناعة، هو تقديم كل محرض طائفي وكل مثيرٍ للفتنة وأي جهة أو إدارة أو مؤسسة أو وسيلة إعلامية، أياً ما كان الدين والمذهب الذي تتبعه، للمساءلة القانونية أمام قضاءٍ يضمن العدالة للجميع، ولا يتعامل بمزاج طائفي هو الآخر.
بعد تلك المقدمة الطويلة، وددت أن أرفع مقترحاً إلى الأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتحديداً إلى معالي أمينها العام عبداللطيف الزياني لتشكيل «هيئة وطنية خليجية لمكافحة الطائفية»، تضم في عضويتها ممثلين من أبناء الخليج الأكفاء والمؤهلين وذوي الفكر المعتدل والعطاء الوطني المخلص من كل الأديان والطوائف والملل، ولا تقتصر على السنة والشيعة فقط، ولله الحمد، فإن في دول مجلس التعاون الست من الكفاءات والشخصيات من كل الطوائف ما يشكّل حائط صد لمخاطر الفتنة الطائفية والصدام الدموي الوحشي المنطلق من التكفير الداعشي والتعصب المذهبي. فالمخاطر المحدقة كبيرة، والحكومات تدركها جيداً، لكنه للأسف، تسمع وترى وتتابع الخطاب التكفيري الدموي على خارطة الإعلام من كل حدب وصوب، ولكنها لا تحرّك ساكناً، ومن يعترض على كلامي، فليقدّم لي نموذجاً واحداً لواحد من كبار أقطاب التكفير والطائفية والتشدّد قد تمت محاكمته بالفعل ونال جزاءه الذي يستحقه؟ ولنترك بعض الحالات التي لا تعدو محاكمتها أكثر من مسرحية شكلية أدت إلى تخلية سبيلهم «بعد أن ثبت عليهم بالأدلة أنهم يهدّدون السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية بخطابهم التكفيري والتأجيجي».
إن تشكيل هيئة في هذا المسار، ومنحها الصلاحيات والدعم القوي، الذي يفوق أضعافا مضاعفة الدعم الذي يحظى به الطائفيون والمحرّضون مالياً وإعلامياً ولوجستياً، من الممكن أن يسهم في إخماد النار الطائفية المستعرة التي ستزداد إن تُركت، لتأتي على حاضر ومستقبل أجيال الخليج والعالم العربي والإسلامي، فمعالجة الأزمة الطائفية تتحقق من خلال الإصلاح الحقيقي للدول، واستيعاب كل المكوّنات بعيداً عن التجزيء المذهبي والقبلي، وهو تجزيء طارد لمكونات أخرى لها حق العيش في وطنها، وكلنا نعلم أن الكوادر المشرفة من أبناء الخليج قادرة على صياغة مهام وآلية عمل مثل هذه الهيئة في شكل وثيقة تلتزم بها كل دول مجلس التعاون. هذا إن كانت حكومات الخليج جادة في إخماد نار الطائفية والتحريض والتأجيج المذهبي.
وحتى لا ينبري البعض الذي يفهم من العبارة جزءاً ويستعصي عليه جزء آخر وفق هواه الطائفي: «فإن الجرافة الطائفية التي يقودها مشايخ وخطباء كبار في الخليج، معروفون للكل بدعواتهم الكريهة لاستباحة دماء هذه الطائفة وتكفير تلك الطائفة، والدعوة لمسح ذلك المذهب، يقابلها آخرون من الجرافات الطائفية التي تعتدي على رموز المسلمين وتُشرّع الشتم وتشجّع الصدام، فما يتفق عليه كل أهل الخليج المخلصين هو أن يتم مساءلة كل (جرافة طائفة دموية) بغض النظر عن مذهبها الذي تنتمي إليه ما دامت تشكل خطراً على النسيج الوطني».
يا سادة، نحن أمام عملية جرف دموية طائفية خطيرة منتعشة في إعلامنا الخليجي والعربي، ومشوهة للمنبر والخطاب الإسلامي، وتراها الحكومات بأم عينها وتدرك مخاطر وسوء عاقبتها، لكنها للأسف تتغاضى عنها وتشيح بوجهها عنها، ثم تأتي في أزمات الدماء كالدالوة والقديح ومجازر الذبح الموجعة على خارطة العالم الإسلامي، لتشجب وتستنكر وتهدّد المحرّض والطائفي والمتعصب (الذي يسمع ويضحك لأنهم يعلم بأن يدهم لن تطاله، وأن الهوامير التي ترعاه وتدعمه وتسند ظهره، لن تتخلى عن جنونه الطائفي)، لكن من يدري! لعلنا نصبح ذات يوم، فنرى الأصوات العاقلة المعتدلة المخلصة للأوطان هي المتهمة، ونرى الطائفي والمحرّض المدّمر والمتعصب البغيض، هو رجل المرحلة.