في إحدى محاضرات برنامج ماجستير العلوم السياسية في جامعة الكويت، شد انتباهي مصطلح تردد على مسامعي عدة مرات، وهو «التبعية». ولا أعرف لماذا توقفت عند ذلك المصطلح طارحاً العديد من الأسئلة على أستاذ المقرر. وكان من بين تلك الأسئلة : هل نحن تُبّع لدولة ما؟ وإذا كنا تُبّع، ما هو السبب؟ و ما هو المخرج من هذه التبعية؟
بالرغم من أن الإجابة لم تكن مباشرة، إلا أنها كانت عميقة وعلمية، جعلتني أمام عدة مشاهد نعيشها الآن، تتزعمها «أزمة الفكر العربي» التي جعلت منا أمة متخلفة ورجعية مقارنتاً مع الأمم الأخرى. وهذه هي الحقيقة التي لا نريد أن نواجهها بصدق وشفافية؛ مكتفين بأعذار سمِجة و بالية لنغطي على نكوصنا و خمولنا الفكري والثقافي. إن أحد أسباب هذه الأزمة يكمن في «التبعية الفكرية والثقافية» للفكر الغربي، حتى أن وصل الأمر لمحاكاة الغرب في السلوك والمظهر والعادات والتقاليد. وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما قال: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لاتبعتموهم. قلنا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال فمن؟».
ولا أعني فيما سبق الانعزال الفكري والثقافي، بل من الضرورة أن يكون هناك تطوراً فكرياً بعيداً عن التبعية، وانفتاحاً لا يقودنا إلى التخلف والضياع، ولن يتم ذلك إلا من خلال تنشئة تعليمية صحيحة يتعزز بها البحث العلمي والإنتاج الفكري في مختلف الحقول والميادين العلمية، و عدم الاعتماد على «ثقافة النقل أو النسخ» السائدة في النظام التعليمي العربي الحالي.
إن التغريب والتبعية الثقافية نتاج لفراغ فكري وجمود معرفي و تراجع علمي و انحدار اجتماعي وقيمي، جعل منا أمة ضعيفة هشة في عالم تتسابق به الدول باختراعاتها المتعددة والمتنوعة و تطورها المستمر إلى أعلى القمم، بينما نحن مازلنا في أسفل القاع معتمدين على فتاتهم الفكري والتكنولوجي و التقني… الخ. إن هذه الإشكالية هي أحد أهم أسباب إن لم يكن السبب الوحيد في ضعف الأمة العربية، لأن أهم معايير القوة كما تناولها العديد من أساتذة العلاقات الدولية في أطروحاتهم و تحليلاتهم هو المعيار الفكري والثقافي وليس المعيار الديموغرافي أو الجغرافي أو العسكري، ولنا في اليابان خير مثال، فالبرغم من صغر مساحتها الجغرافية وقلة مواردها الطبيعية مقارنتاً مع بعض الدول العربية المترامية الأطراف و الغنية بمواردها الطبيعية، إلا أنها متقدمة على الدول العربية -مجتمعة- اقتصادياً و تكنولوجياً و علمياً وذلك يعود إلى استثمار فكر الإنسان الياباني وعدم إتباع أفكار وثقافة الدول الأخرى !!
قال المفكر الأمريكي ألفن توفلر: «أن القوة في القرن الحادي والعشرين، لن تكمن في المعيار الاقتصادي أو العسكري التقليدي، بل في المعيار المعرفي»، وفي نفس السياق قال رئيس وزراء بريطانيا السابق ونستون تشرتشل: «أن امبراطورية الغد هي امبراطورية الفكر». لذلك يمكن القول إن حرب اليوم ليست عسكرية، بل فكرية لا تحتاج إلى حمل السلاح و الجيوش الجرارة أو المواجهة العسكرية المباشرة، وأن التبعية الفكرية والتقليد الأعمى للغرب من أخطر الإشكاليات و الأزمات التي تهدد هوية و ثقافة الأمة العربية والإسلامية.
*مبارك الجري
آخر مقالات الكاتب:
- ساعة مع الغنوشي
- من هم الإسلاميون التقدميون؟
- الإسلاميون والكماليون في تركيا: صعود الهامش وتراجع الأساس
- الحشاشون في المخيلة الروائية
- قراءة في قرار مشاركة “حدس”
- وعود حزب النهضة التونسي
- حزب حركة النهضة التونسي : من خيار الدمج إلى خيار الفصل
- أزمة الفكر العربي
- قراءة لقصة مناضل يعيش بيننا الآن
- لم تكن سجيناً يا أبا حمود