كما أشرنا سابقاً، فإن صحيفة المدينة أرست البناء الدستوري لكيان دولة متكاملة في شأن السلطة السياسية بتفرعاتها الثلاثة، وهي أيضا اتسمت بقيمتها التأسيسية، لكونها وثيقة أولى تشتمل على أساسيات الحقوق والحريات أو حقوق المواطنة.
فقد أرست هذه الصحيفة (هذا الدستور منذ السنة الأولى للهجرة، أي عام 623) حقوقاً متكاملة، هي:
حق المواطنة والانتماء إلى الوطن لجميع سكان المدينة دون غيرهم ممن ليسوا جزءا من هذه الدولة الجديدة «إنهم أمة واحدة من دون الناس».
المساواة في الحقوق والتماثل فيها، سواء كان مسلما أو يهوديا أو غير مسلم، فهم جميعا متماثلون في الحقوق، لا ينتقص أحد منهم من حقوقه في شيء، ما دام ملتزماً بما جاء في هذه الوثيقة والتزم بما جاء فيها. وهي مساواة تجاوزت كل أسباب الفرقة بين البشر من أصول أو ألوان أو أديان أو خلافها، فجميعهم في ظل هذه الوثيقة متساوون في الحقوق والواجبات.
حق الحرية في الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وهو إقرار للتعددية الدينية لابناء وطن واحد، من دون إجحاف أو ظلم أو انتقاص لاختلاف الدين «وانه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم»، بل وحقه في حريته الدينية، وقد جاء بالوثيقة ما يؤكد ذلك صراحة «وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته».
تقرير مبدأ شخصية المسؤولية والجرم، وهو مبدأ تم استقاؤه من الآيات القرآنية التي تقرره بصور متعددة، فقد أوردت الصحيفة هذا المبدأ في مواضع متعددة منها «وأن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وان الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره».
حق المشاركة في التوافق الطوعي في القبول بالوثيقة، وهو انعكاس لحق اختيار أو مبايعة السلطة السياسية الحاكمة، إذ تقرر الصحيفة ابتداء فكرة التوافق والقبول. «هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم»، وتقرر انتهاء فكرة القبول بالحكم والسلطة السياسية بناء على ذلك القبول «وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد».
الحق في التقاضي أمام السلطة القضائية المختصة، والتي لها ولاية القضاء كاملة على الجميع، وقد جاء بالصحيفة بيان ذلك بالعبارات الآتية «وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وان الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره».