ظهرت العلمانية في أوروبا كنتيجة طبيعية بسبب موقف الكنيسة المتعنّت والمتزمّت من الاكتشافات العلمية، وبالأخص تلك التي أعلنها كوبرنيكوس وغاليليو وغيرهما، وكانت تصطدم مع الاختيارات العلمية التي فرضتها الكنيسة، وأضفت عليها القداسة، وحاربت كل نظرية علمية تخالفها، فظهرت العلمانية كحل لهذا المشكل الذي يحمل هذه الظروف والملابسات، والتي قد لا تتوافر في كل المجتمعات الإنسانية بالضرورة!
وبالنظر إلى مسيرة العلمانية في البلاد العربية نلاحظ أن دعاتها اجتهدوا في محاولة اختلاق الظروف ذاتها، التي كانت سبباً في نشأة العلمانية في الغرب، رغم عدم توافرها في البيئة العربية، هذا لا يعني سلامة أوضاعنا، ولكن حتى نحسن صياغة مشروع لنهضة عربية، ينبغي أن نحسن توصيف الحالة، ليكون المدخل للحل صحيحا، من دون استنساخ ظروف ومبررات التجارب التاريخية المغايرة.
إن عدم تطابق ظروف التخلف العربي وأسبابه مع ظروف وملابسات التخلف الغربي قبل العلمانية، جعل المشروع العلماني العربي بلا معنى، وقائما على أوهام ومغالطات أوحتها له التجربة الغربية مع الدين، فإذا كان التقدم العلمي في الغرب الذي اصطدم بالكنيسة هو الشرارة التي أطلقت العلمانية، فما الجهود العلمية الرصينة التي قدمها العلمانيون العرب واصطدمت بالدين الإسلامي؟! لا شيء يذكر، وهذا ما يفسر تمحور العلمانيين العرب حول مجموعة من القضايا التي لا تعبر عن رؤية نهضوية حقيقية، فاتجهت أغلب طروحاتهم إلى مناكفة الإسلاميين في قضايا تتعلق بلباس المرأة، والتحرر الاجتماعي، واستفزاز المشاعر الدينية للمسلمين، ومعارضة كل ما هو اسلامي، ووصفه بالرجعية، مما جعل المفكر المصري محمد جلال كشك يقول في كتابه «جهالات عصر التنوير»: فلو افترضنا أن بعض النسوة سمّين «المايوه» حجاباً لثارت ثائرة الجماعة إياها (العلمانيين) ولطموا الخدود وشقّوا الجيوب على عودة الرجعية وضياع المنجزات!
إن إحدى أهم المشاكل التي عانى ـــ وما زال يعاني ـــ منها الواقع العربي هي الاستبداد السياسي والاستئثار بالمال والسلطة، فكان من المفترض أن يكون حاضرا في الخطاب العلماني أكثر من قضايا، مثل الاختلاط والحجاب، لكن العكس كان صحيحا، فقد ساهم العلمانيون العرب في ترسيخ الاستبداد ودعمه وتسويغه والتحالف معه، ليملأوا الفضاء، ويسوّدوا الصحائف بقضايا بعيدة كل البعد عن جوهر المشكلة التي يعاني منها العالم العربي، وعندما لاحت في الأفق بوادر التحول الديموقراطي، ووقع اختيار الناس الحر والنزيه على الاسلاميين، ثم بدأت الثورة المضادة ترتب صفوفها للانقضاض على هذا التحول، اختار غالبية العلمانيين العرب الركوب في مركب الثورة المضادة، لإجهاض هذا التحوّل!
خلاصة القول: إذا كانت العلمانية الغربية قد انطلقت من المصانع والمختبرات نحو التقدم والتطور العلمي، فإن العلمانية العربية انطلقت من الثكنات العسكرية، للدفاع عن حرية لبس «المايوه»!