لعن الكثيرون التلفزيون عندما غزا مجتمعاتنا في خمسينات القرن الماضي، ورفض غيرهم مجرد النظر إليه، دع عنك إدخاله لبيوتهم لما اعتقدوه من خطورته على الأخلاق، وكشفه المستور وتطرقه إلى الأمور الجنسية، ومخاطبته للصغير والكبير، الفاهم والجاهل، باللغة نفسها. وعندما أحضر والدي التلفزيون إلى بيتنا، وكان لفترة الوحيد في الحي، دأب أحد أقربائنا على زيارتنا في أوقات البث القصيرة، ليحذّ.رنا من مخاطر مشاهدة برامجه «غير الأخلاقية»، وكان يجلس بعيداً عن الجهاز، معطياً ظهره للشاشة الصغيرة، ولكنه كان مع الوقت يعدّل من جلسته ويلتف بجسده شيئاً فشيئاً ليصبح، مع نهاية السهرة، في مواجهة ذلك الجهاز الساحر.
ما قيل عن التلفزيون قيل أضعافه عن الإنترنت، وبلهجة أشد، وكيف أن هذا الاختراع، وملحقاته، لم يكتف بدخول كل بيت وعقل، صغيراً كان أم كبيراً، محافظاً أم متحرراً، بل فرض نفسه على الجميع طوال ساعات الليل والنهار، وأصبح الكثيرون مدمنين على مشاهدته، وآخرون يحددون حياتهم على بث برامجه. وكان التلفزيون، وما زال، يبث ما ترغب الجهة المالكة من المشاهد الاطلاع عليه. وبالرغم من قدرة التلفزيون الكبيرة على ترويج فكرة أو سياسة ما أكثر من غيرها، فإن قدرته مرتبطة بوجود المشاهد لحظتها أمام الجهاز، وهذه هي قوة الصحافة والكلمة المكتوبة التي تبقى أمام قارئها طوال الوقت. وبالتالي، عندما جاء الإنترنت جمع بين التلفزيون والجريدة، وجعل المعلومة بتناول مليارات البشر، وبمليار ضعف القدرة على الوصول لكل أبحاث وصور وكتب العالم ومكاتباته بلمح البصر، وبمجرد الضغط على بضعة أحرف وأرقام. ثم جاء الهاتف الذي يضع كل ذلك رهن إشارة الجميع، أينما كان ووقتما شاء.
وكانت نتيجة يسر الوصول إلى كل هذا الكم الهائل من المعلومات السياسية والثقافية والدينية والحربية وعشرات آلاف المواضيع الأخرى خلق جيل يمتلك كماً هائلاً من المعلومات التي كانت في السابق تتطلب منه عشرات السنين ليحصل على واحد من المليار منها. وبالتالي، أصبحنا نشاهد ظهور موجات ضخمة من شديدي الإيمان من جهة وشديدي عدم الإيمان من جهة أخرى، وكل وجد ضالته في الإنترنت. وبالتالي، يمكن القول إن موجة العنف الديني التي ضربت المنطقة في مقتل منذ ثلاثة عقود تقريباً، والتي تسببت فيها أموال البترول بشكل أساسي، زاد من أوارها ما جلبه الإنترنت من مصائب و«خيرات»، بعد أن نجح في فتح أعين الكثيرين على أمور لم يكونوا يتخيلون وجودها أصلاً. وأصبح ما كنا نطالب به ونتحمس له، خفية وهمساً، في السابق، معروفاً وشائعاً حتى في أكثر الدول تزمتاً وانغلاقاً، جنسياً ودينياً، وبالتالي فإن الثورة التصحيحية، التي ستجرف كل هذا التخلف من حولنا، قادمة لا محالة!