“هي سنة كاملة من الكآبة العالية الجودة”، قال لي ذلك قبل أن يخفي حزنه خلف الستارة، ويطلق العنان لضحكاته: “ثلاثمئة وخمسة وستون يوماً بالتمام والكمال، يا أبا سلمان، لم تصدر مني ضحكة فرح، ولا حتى ابتسامة، ولم تظهر أسناني من مخبئها خلف شفاهي، إلا عند الضحك على الجراح”.
هو ليس من الفاعلين في الحراك، ولا يتابع تفاصيل الأوضاع السياسية. هو رجل كأشباهه من الصامتين الجالسين في زاوية الصالة، يكتفي بتناول العناوين، ويعرف الخطوط العريضة للأوضاع، ولا يقرأ حرفاً من تفاصيل الخبر.
هاتفني، كعادته التي لم تنقطع، كلما أراد الاطمئنان على أحوالي: “يقال إنك ازددت طولاً، طمئني على طولك”، سايرته: “الآشية معدن، والعتبة قزاز، لولا بعض الأخبار الداكنة التي تأتيني من جهتكم، الكويت”. وأكملت: “أنت من يجب أن يطمئنني”، فقهقه: “كما أخبرتك؛ منذ عام لم أبتسم، ولو حتى بالخطأ، فكل يوم أشد كآبة من سابقه، وكل خبر أنكى من أخيه الأكبر وأمرّ…”.
قالها، ثم أكمل حديثه، بجدية هذه المرة: “تُصدق، أبا سلمان، فعلاً لم أضحك فرحاً منذ سنة، بالمعنى الحرفي للكلمة، لا المجازي… سابقاً، كنت أفرح بزواج أحد أبناء أصدقائي، عندما أُدعى إلى الحفل، وأتبادل الضحكات مع أبيه وأقربائه، أو كنا نتبادل الضحكات مع المريض الذي عاد إلى البلد، بعد رحلة علاج طويلة، أو نتبادل التهاني على سلامة صديق تعرض لحادث مروري، أو نفرح لتخرج أحد أبنائنا، أو… أو… أو…”.
“في هذه السنة، (يواصل حديثه)، لم تحدث أيّ من المناسبات التي تستوجب الفرح وتستدعي الابتسامة، فلم يتزوج أيّ من أبناء أصدقائي، عليهم من الله ما يستحقون. يبدو أنهم (أي الأبناء) اكتفوا بالعلاقات العاطفية، وأضربوا عن الزواج، كي لا يخرجونا من أحزاننا. ولم أُدعَ لعشاء بمناسبة عودة أحدهم سالماً بعد رحلة علاج، يبدو أن كل الأصدقاء المرضى قرروا أن يموتوا هناك ليحرمونا الفرحة. الأنذال… بل حتى الصديق الذي تعرض لحادث مروري، اختار، بعد فترة غيبوبة آلمتنا، أن يموت، دون أن يأبه بنا، وبدموعنا التي صرفنا مخزونها كله عليه، طوال فترة غيبوبته، وأصبح رصيدنا من الدموع مكشوفاً… يا عزيزي، نحن في قاع قبر، وهل سمعت، يوماً، عن ضحكات تصدر من قبر؟”.
قلت، محاولاً قدر الإمكان تخفيف ما ثقل وزنه من جراح قلبه: “الكويت، هذه الفترة، ملبوسة (أي يتلبسها جن)، وليس لكم إلا أن ترددوا كل مساء: أشتاتاً أشتوت”.
خذ نصيحتي هذه، قلت له بجدية: “اشتر (أو ابتع، بالفصحى) دجاجتين أو ثلاثاً، وديكاً فحلاً في عنفوان شبابه، وثبّت كرسيك عند باب العشة، وكلما باضت دجاجة، ارقص الدبكة، والبيضة بين يديك، وهزهز كتفيك، ولاعب حاجبيك، إلى أن تمر الغيمة، أو الغمة… كان الله في العون”.