عندما قدم عباس أو «عباسوه» إلى الكويت من شيراز في ثلاثينات القرن الماضي، اشتغل في بيع الفول أو «الباجلاء» المطبوخ، حيث كان يضع على رأسه قطعة من القماش ويضع فوقها قدراً كبيراً مملوءاً بالباجلاء يمسكه باليد اليمنى وباليد الأخرى ملعقة كبيرة (ملاساً) ويطوف على البيوت في فريج الرشايدة في مدينة الكويت القديمة وينادي بصوت عال: باجلاء.. باجلاء! وكان عندما يمر على منزل الحاج حبيب مناور يرسلون إليه طفلاً صغيراً اسمه علي، معه قدر صغير ليملأه بالباجلاء ويلتقي بأخيه الأكبر مناور، الذي يحمل بيديه الخبز الإيراني، ويدلفا إلى البيت ليقدما الإفطار الشهي! ومن شدة حب علي لهذا التكليف اليومي، كان يضع على رأسه قدراً صغيراً تحته فوطة صغيرة ويمشي بين غرف المنزل منادياً: باجلاء.. باجلاء! وكانت النساء والأطفال ينادونه «عباس عباس.. تعال عطنا الباجلاء!».
كبر عباس الصغير وكبر معه اسمه، وعندما جاء وقت الأوراق الرسمية لم يكن ممكناً إلا تسجيله باسم عباس، فكان عباس حبيب المناور المسيلم!
● كان عباس متميزاً بتدينه ودماثة خلقه وأمانته، حتى أن أحد التجار الكبار أوكل إليه بيع أراض في منطقة جليب الشيوخ، وكان عباس يبيع الأرض بالتقسيط الميسر على محدودي الدخل من عرب البادية وغيرهم، وكان يثق بهم ويثقون به حتى تسبب في تصريف معظم الأراضي وأطلق الناس على المنطقة اسم العباسية!
● طرح عبدالله السالم أمير الكويت فكرة تأسيس دستور جديد للكويت بعد الاستقلال، والدعوة إلى مجلس تأسيسي لإصدار الدستور، وجرت أول انتخابات عامة في مطلع 1962، وترشح لها أكثر أهل المنطقة بروزاً بأمانته وخلقه وحسن سيرته، فكان عباس المناور ممثلاً للمنطقة مع أخيه وزميل دربه يوسف المخلد، وساهم في إصدار دستور حديث حافظ على الهوية الإسلامية والعربية، وأعطى هامشاً كبيراً للحريات العامة!
● استمر عباس المناور ممثلاً للمنطقة في كل انتخابات تشريعية إلى عام 1976، حيث تم حل البرلمان في حينها وشكلت الحكومة لجنة لتنقيح الدستور بغية تقليص الدور الرقابي للمجلس وزيادة هيمنة السلطة التنفيذية على قراراته، واختارت عباس المناور عضواً في هذه اللجنة. ولو علمت كيف سيكون دور عباس فيها، لما اختارته! فوجئ الجميع بأن اللجنة ترفض مقترح الحكومة وتقدم مقترحاً يمنح المجلس مزيداً من الصلاحيات، مما أحرج الحكومة واضطرها إلى رفضه، وأذكر عندما زار الشيخ سعد العبدالله ديوانية عباس المناور في رمضان من تلك السنة، قال له أبو مطلق: شكّلتم لجنة لتنقيح الدستور، وعندما قدمنا لكم رأينا ألقيتوموه (!) ولم يمنعه وجود الشيخ سعد من مصارحته بهذا الشكل!
● في انتخابات 1981، قرر فخذ صياد من قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها عباس المناور إجراء انتخابات فرعية لاختيار اثنين يمثلان الفخذ، ورفض أبو مطلق المشاركة بها من حيث المبدأ، ودخل الانتخابات العامة منفرداً، وطبعاً كان هذا سبباً في خروجه من السباق لأول مرة في تاريخه السياسي نتيجة درجة الوعي عند الناخبين، حيث كان المهم أن ينجح من يمثل القبيلة بغض النظر عن الكفاءة، كما هي العلة عند معظم القبائل آنذاك!
● في انتخابات 1985، كانت ردة فعل الناخبين قوية، حيث صوّتوا لعباس المناور بكثافة بعد أن شعروا بالفراغ الذي تركه! ولن أنسى موقفه معي عندما استجوبت وزير العدل في حينها، حيث كنا نجمع الأصوات لطرح الثقة، فكان يقول لي: خل هذا علي أنا أكلمه لكم، فجمع لنا من الأصوات ما يكفي لإسقاط الوزير الذي استقال قبل التصويت على طرح الثقة!
● الحديث عن رمز مثل عباس المناور لا يكفيه مقال ولا كتاب، فموقفه مع المعارضة السياسية التي كانت تسعى إلى عودة البرلمان في نهاية الثمانينات يحتاج إلى كتاب كامل، ولكن أريد أن أؤكد على رسالة أراد المرحوم بإذن الله أن يوصلها إلى ناخبيه، وهي: أن نواب المناطق الخارجية ليس بالضرورة أن يكونوا تبعاً للسلطة بخيرها وشرها، بل من الممكن أن يكونوا ممثلين جيدين للشعب في آماله وآلامه وطموحاته، لقد بلغ السبعين من العمر وهو من ضمن المعارضة السياسية في البلد، بينما نشاهد اليوم، مع الأسف، شباباً ما إن ينجحوا في الانتخابات حتى تجدهم يلهثون وراء الحكومة يقتاتون من فتات ما تلقيه إليهم!
رحم الله عباس المناور، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته.