عجزتُ عن فهم لغز تصريحات وزير المالية أنس الصالح، فمع أزمة تدهور النفط و"حوسة" الحكومة في ترقيع وضع الدولة المالي، ومحاولاتها إظهار نفسها بالجدية في الإصلاح المالي، جاءت تصريحات الوزير تقرر أن الحكومة بصدد غربلة الكثير من أوجه الهدر في ميزانية الدولة، إذ قال إن "هذا التوجه لا يتضمن ما من شأنه أن يمس دخل المواطن" (جريدة الراي).
أما عن رفع الدعم عن سلع استهلاكية رغم ارتفاع أسعارها، فذكر الوزير "أن قرار رفع الدعم لم ولن يتم، إلا بعد دراسته بشكل مستفيض، حتى لا يترتب عليه أي مساس بالمواطن"! أتعبنا الوزير بكثرة ترديد عبارة "عدم المساس بدخل المواطن"، فهذا الشرط المقدس عند الوزارة غير قابل للنقاش "الآن"، لكن بعد الدراسة المستفيضة من خبراء حكومة "هارفرد بيزنس سكول"، يمكن أن يتغير الوعد الحكومي.
الحكومة هنا "مشتهية ومستحية"، فهي تريد وقف الهدر، ولا أدري كيف يمكن أن يتم ذلك بدولة يقوم اقتصادها أساساً على فلسفة الهدر المتحقق بكل صوره، سواء تمثل بالفساد الكبير للمؤلفة قلوبهم من هوامير الدولة، أو بالفساد الصغير لأصحاب الأجر من غير عمل، وأولوية مبدأ المحسوبية بدل الجدارة في تولي الوظيفة العامة والخاصة؟!
ولكنها (الحكومة) في الوقت ذاته، وللاعتبارات السياسية، وأيضاً الأمنية، تسعى إلى عدم إثارة قلق المواطن- مع أني أرى أن مثل هذا القلق يعد ظاهرة صحية لإيقاظ وعي المواطن بحاله وحال الدولة في الأزمات- فتعدنا الآن ماما الحكومة "الحايسة اللايصة" في ظل تناقص دخل الدولة أن هذه الإجراءات لن تمس دخل المواطن! فهمونا كيف لا يمكن المساس بدخل المواطن، إذا حدث، مثلاً بعد "دراستكم المستفيضة" (تعبير الوزير) رفع الدعم، أو تم خفضه، عن سلع الجمعيات، أو البنزين أو الكهرباء والماء؟! كيف يمكن تصور عدم تأثر دخل المواطن في هذه الحالة؟! أو إذا قررت الحكومة، مثلاً، إعادة النظر في سياسة الكوادر التي خلقت طبقات ثرية من أصحاب بعض المهن الحكومية وظلمت أصحاب مهن أخرى، ألا يتأثر هذا المواطن بكل تلك الأمور؟!
هناك مسألة ومسائل أخرى، غير مفهومة، مثلاً "أي مواطن" تتحدث عنه الحكومة، هل هو صاحب المجمعات التجارية والاستثمارية الذي يقبض من الدعم مثله مثل الموظف البسيط الغارق في سداد أقساط الديون الاستهلاكية من أصحاب الدخل المحدود، أم أنه ذلك الموظف الذي "يضرب كرت الدوام" ولا يلتزم بالوظيفة، ثم يخرج يرتزق من وظيفة أخرى في القطاع الخاص، أو يجوب الشوارع "يقز"… فعن أي فئة من المواطنين تتحدث الحكومة؟
وأمامنا، أيضاً، تصورات من اللجنة التشريعية بمجلس الأمة لحل أزمة الاقتصاد الريعي، بحلول ريعية "إنسانية" عبر تحديد إقامة الوافدين بما لا تتجاوز خمس سنوات، وألا تزيد نسبة أي جالية على 10 في المئة من سكان الكويت! ماذا تريد هذه اللجنة تحديداً، هل تحلم أن يحل المواطن الكويتي محل الوافد في العمل الخاص والعام، أم تبغي تحديد عدد هذه العمالة الوافدة بجعل إقامتها محدودة ومن غير عوائلها… يعني إحالة الكويت إلى معسكر عمل عزابي أكثر مما هي عليه الآن؟!
لا أفهم سر تحديد الـ"خمس سنوات" كحد أقصى للإقامة… وعلى أي فئة من العمالة سيطبق؟… وما الهدف منها؟، وإذا رحلت هذه العمالة فمَن سيحل مكانها، هل سيخلق المجلس والحكومة النجار والحداد والسباك والبناء الكويتيين، أم سيستطيع الإداري الكويتي أن يجلس على كرسيه ويبحث ويكتب مذكرة قانونية أو يعد دراسة علمية من غير الاستعانة بـ"محول" عربي مصري في الغالب…؟! وهل يقبل الكويتيون العمل في بعض المهن؟، ولنسأل مثلاً، كم مضمداً ومضمدة من الكويتيين يعملون في خدمة الصحة؟ وكم عدد الكويتيين العاملين في معظم المهن الحرفية؟ وهل يمكن أن يسدوا قليلاً من النقص في اليد العاملة الأجنبية؟
انسوا كل ما سبق… ودعونا نثير سؤالاً عن التواكلية في حياتنا في كل صغيرة وكبيرة، هل لنا أن نتخيل منازلنا، يوماً ما، من دون خدم آسيويين مغلوبين على أمرهم؟… يا ساتر من هذا اليوم… يقول المثل التراثي رحم الله امرأ عرف قدر نفسه، فلتعرف الحكومة ومجلسها قدرهما وقدر ابن البلد، قولوا "الشق عود"، وأنتم يا جماعة السلطة من مزق الثوب الكويتي وحرقتم تراثاً عظيماً بتاريخ الوطن في قيم العمل المنتج، والآن راحت السكرة مع رحيل برميل المئة دولار ولم تأتِ "الفكرة" مع برميل السبعين دولاراً…حلوها.