أسعار النفط تتهاوى يوماً بعد يوم، ويعني هذا ببساطة تناقص مورد الدولة شبه الوحيد، وإذا جلسنا مكان "كاسندرا" قارئة المستقبل المجهول في الأساطير اليونانية، فماذا يمكن أن تفعل السلطة، وما الافتراضات التي يمكن تصورها أمام أكبر تحد اقتصادي تواجهه الدولة اليوم؟ يمكن، بداية أن نفترض أن السلطة ستقتنع أن الأزمات التي تعصف بالدول هي فرصة لتصحيح الإدارة السياسية والمالية، فتشرع في غربلة جهازها الإداري العاطل والفاسد، وتتخلص من قيادات رديئة، كانت شهاداتها التعيسة هي المعارف والواسطة، والمحسوبية، والتزلف. بكلام آخر، هنا تبادر السلطة السياسة بإنهاء حالة "الزبائنية" clientelism في الدولة، وهي العلاقة التبادلية بين الزبون طالب المنصب، ورجل السلطة الذي يوظف ويعين هذا الزبون أو يفضله في بلع ثروة الدولة، تحقيقاً لمصلحة سياسية استغلالية، وهي أبشع صور الفساد، ونسميها، أحياناً، المحسوبية والواسطة.
حين تضع السلطة الشخص المناسب في المكان المناسب، وتشرع في القضاء على الفساد الإداري، الذي يستتبع تقليل فرص الفساد المالي، عندها، وتحت ظلال المساواة حين تتساوى الفرص العادلة، وتحت مبدأ سيادة القانون الذي لا يعرف المحسوبيات الاستثنائية ولا من "صادها بالأول عشى عياله" يمكن للمواطنين، أن يرضوا بالتضحيات المادية حين تطالبهم السلطة الحاكمة بها لظروف الدولة المالية الصعبة، لأنهم "يثقون" بسلطتهم وحكومتهم، والثقة هي مفتاح الخروج من الأزمات وصلاح الدولة، وحتى تتأكد هذه الثقة يجب على السلطة فتح أبواب المشاركة السياسية الصحيحة كي تستقوي بها، هذه المشاركة الحقيقية لا تعني فتح أبواب الواسطة والمحسوبيات من جديد عن طريق النواب، لأن السلطة التنفيذية إذا سارت على الطريق الصحيح فلن تخشى تهديدات نواب بالاستجوابات الانتهازية عند الذين وصلوا إلى النيابة عبر بوابة "الزبائنية"، فهي (السلطة الحاكمة)، يفترض أنها تطبق القانون بعدل، والنواب يفترض أنهم وصلوا لخدمة الأمة لا لقبيلتهم أو طائفتهم أو جماعتهم التي يدورون في فلكها، فالوعي السياسي بالمستقبل لن ينزل من السماء فجأة، بل يحتاج إلى وقت ومثابرة وتضحية من الكبار قبل الصغار.
والحل الآخر، أن تبقى السلطة على "طمام المرحوم"، وهذا مثل كويتي رائع يعبر تماماً عن واقعنا، فالسلطة هنا، لا تريد وجع الرأس، وتستصعب طرق درب الإصلاح الطويل وما يتطلبه من تضحية، وتقنع نفسها أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، هنا السلطة، لن تنبش أعشاش الفساد المستوطنة في عظم الدولة، بل تفضل الحلول الترقيعية المؤقتة، مثل الذي يعالج السرطان بأقراص الإسبرين، فهي تخشى أن تفقد "شعبويتها" المريضة، وتؤثر، حينها، سياسة الاسترضاء السياسي مهما ارتفع ثمنه، لأن الإصلاح الحقيقي يتطلب تضحيات كبيرة، وقبل هذه التضحيات يتطلب "رؤية" ثاقبة للمستقبل، وكفاءة عند أصحاب القرار، وهذا غير متوافر حالياً، والنتيجة، هي "ترهيم" الوضع المالي الصعب للدولة بالاقتراض، ولو برهن الأرض، لا قدر الله…
يبقى أن نتخيل احتمال درب ثالث يمكن أن تسلكه السلطة، كأن ترفع الدعم عن الخدمات العامة، وتقلص فرص العمل بالوظيفة العامة، وتتبع وصفات صندوق النقد الدولي بحذافيرها دون أي تغيير سياسي يرافق كل هذا، فهنا لن يكون أمامها غير إنهاء شبه حالة "الاستثناء الكويتية" في المنطقة العربية، وتصير حالها من حال غيرها، حين تشد الحزام على الناس وتتركه رخواً على جماعتها، عندها ستعلو أصوات المعارضة، وتتجذر بالمسيرات والتظاهرات، إزاء ذلك، ستشتد سياسة القمع أكثر مما هي عليه، وستدخل الدولة نفق المجهول المخيف… فأين تنتهي نبوءة "كاسندرا"!