منذ اتفاقية سايكس بيكو في مطلع القرن الماضي وتوزيع البلاد العربية تحت هيمنة النفوذ البريطاني والفرنسي والإيطالي، والأمة تعيش في ذلة ومهانة لم يسبق لهما مثيل، واكتملت المأساة في عام 1924، عندما أعلن أتاتورك سقوط الخلافة الإسلامية إلى غير رجعة! وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت الشعوب العربية تتحرر من أغلال الاستعمار الغربي، باحثة عن الحرية الغائبة منذ عقود، لكنها وقعت في شراك استعمار من نوع آخر، حيث حكمتها أنظمة ليبرالية لا تقل سوءاً عن الحكم الغربي، فشاهدنا ظاهرة الحكم الفردي المستبد، من أمثال بورقيبة وعبدالناصر وغيرهما، وفتحت السجون للكفاءات من أبناء الوطن، وعقدت المحاكم الصورية، والتهم المعلبة، ونصبت المشانق لأصحاب الرأي المخالف، وتحول الشعب إلى مخابرات وأمن دولة، وأصبح الوطن سجناً كبيراً لكل من فيه! واستمرت هذه الحالة قرناً من الزمان أو يزيد، حتى وصل الفساد إلى جميع مرافق الدولة، ووصلت الحالة النفسية إلى وضع لم يعد يحتمل، فثارت الشعوب ثورة رجل واحد على الطغيان، وتبين أن هذه الأنظمة البوليسية ليست إلا أجساداً من كرتون لم تلبث أن تطايرت مع أول انتفاضة شعبية، فكانت ثورات الربيع العربي التي اقتلعت الدكتاتوريات إلى مزبلة التاريخ.
خرجت الشعوب إلى الشوارع فرحة بإنجازها باحثة عن حريتها، وكان أول شيء سعت إليه هو تأسيس نظام تشريعي برلماني يرسِّخ مبادئ الحرية، ويغلق المعتقلات التي كانت تمتلئ برجال تهمتهم أنهم عبّروا عن رفضهم للواقع السيئ الذي كانت تعيشه الأمة! فأصبحنا نشاهد انتخابات حرة ونزيهة، وصرنا نسمع عن برلمان ودستور ورئيس منتخب وحرية صحافة، وبدأت الشعوب العربية تعيش حياة كريمة فقدتها منذ عقود من الزمن.
ولكن، يا فرحة ما تمت!
شعرت بعض الأنظمة في شرق الوطن العربي الكبير أن قطار الربيع سيمر على ديارها! وتورط الأميركان مع هذه الظاهرة التي لم يحسبوا حسابها، فهم لا يستطيعون أن يقفوا في وجه حركات تحرر تسعى لاستبدال نظام ديموقراطي بنظام دكتاتوري، كما أنهم لا يرغبون في مشاهدة سقوط حلفائهم التقليديين، أمثال حسني مبارك وبن علي وصالح وغيرهما، ليواجهوا حكاماً تسيرهم مصالح شعوبهم لا مصالح أميركا والغرب. لذلك، قرر الغرب والشرق: الغرب بأدواته والشرق بأمواله، أن يعيدوا الشعوب العربية المتمردة إلى حظيرتهم، وأن يكسروا الشعور بالعزة الذي نشأ في نفوس هذه الشعوب الغلبانة، ويستبدلوه بالإحباط وفقدان الأمل من أي إصلاح لحال هذه الأمة، فبدأوا في مصر بانقلاب راح ضحيته آلاف المصريين، وراح معهم شعار ثورة يناير «لا لا لحكم العسكر»، ثم ها هم يسلطون الحوثيين على شعب اليمن؛ ليزعزعوا استقراره، ثم يسحبوا دعمهم للمجاهدين السوريين، بعد أن كاد نظام بشار يسقط؛ ليعطوا الفرصة لإيران وحزب الله لإنقاذه. وها هم اليوم يشعلونها من جديد في ليبيا؛ ليوصلوا رسالة واحدة لمعظم الشعوب العربية تقول لهم «أنتم لا تستحقون العيش الكريم ولا الحرية، أنتم شعوب خلقتم لتكونوا عبيداً لحكامكم الذين يسومونكم سوء العذاب»! ثم يخرج لك ملتح ليقول لك «هذا ولي أمر متغلب تجب له الطاعة»! رحمة الله عليك يا ابا عبدالله الحسين عندما قلت «هيهات منا الذلة».
***
حوار أعجبني:
«قال: كنت سادس الجمهورية في الثانوية العامة، والاول على كلية الطب، وطبيباً متميزاً، وأستاذاً للطب في جامعة الأزهر، وعيادتي من أفضل المراكز الطبية في مصر، ثم في شهرين… تلفق لي 25 تهمة جنايات! حولتموني إلى رئيس المافيا العالمية! قتلتم ابنتي، واعتقلتم ابني، وطاردتم زوجتي، واحرقتم عيادتي.. أقسم بالله: الإعدام والبراءة عندي سواء.. حتى تعلم أجيال الأمة من كان يقف في صف الحق ومن كان يقف في صف الباطل!».
(د. محمد البلتاجي يخاطب قاضي محكمته).