أعلم أن موضوع الحديث عن فساد إدارة الدولة مستهلك، وأي كتابة فيه لا تستطيع أن تقدم جديداً أمام "صهينة" و"تطنيش" السلطة وعدم اكتراث الأقلية الدائرة في حلقات الذكر للقوى المتنفذة بالدولة. حديث الفساد يعيد نفسه ولا يقدم جديداً، لأن أسماء وصفات المفسدين لا يمكن نشرها بفرض وجود وسيلة إعلام حرة تنشر الحقيقة أو بعضاً منها، ولا أعتبر الكاتب قاذفاً أو متهماً بجريمة من جرائم الرأي التي تزخر بها قوانين الدولة، وهي قوانين قمعية قاتلة لحرية الرأي تمجّد السلطة الحاكمة وتخنق أي مشروع لنشر فضائح الفساد، وتخلو من نصوص واضحة تفرض الشفافية في سير المرفق العام.
هناك على الضفة الأخرى من معضلة الحديث عن مطولات الفساد، اشتراط تقديم الدليل على جرائم المفسدين، فأسهل الأمور، عند السلطة يتمثل في دأبها "طمطمة" كل كلام عن المفسدين أو الإشارة إليهم، وردودها المعلبة جاهزة إما بقولها: "شكلنا لجنة تحقيق" تنسى مهمتها في أدراج التاريخ المغبر، أو تتحدى الخلق بعبارة: "هاتوا الدليل"، وما أكثر ما سمعنا مثل ذلك الرد المستهزئ في خطاب السلطة الرسمي، ووصفتُه بكلمة "مستهزئ" لأنه يسخر من أصحاب الضمير الذين يخاطرون ويفضحون مجرمي المال العام ويتحداهم، لأن رعاة هذا الخطاب المتعالي في نبرته يعلمون أن من يملك إقامة الدليل هي السلطة وحدها، ويستحيل أن تبادر الأخيرة بتقديم دليل إثبات ضد أحد المقربين منها أو ضد أحد أبنائها. النتيجة أن مَن يخاطر ويجازف بفضح جرائم الفساد الرسمي يجد نفسه في قفص الاتهام، آخر الأمر، وقضية النائب السابق فيصل المسلم، يجب أن تُحفَر في الذاكرة الوطنية للدولة، حين وقف شامخاً في قاعة المجلس ولوّح بشيكات الرشا بغرض شراء الولاءات السياسية، التي قدمتها السلطة لأولياء الفساد الطالحين في المجلس، ماذا كانت النتيجة المحزنة بعد ذلك؟! تعرفون أن ملف "الجماعة إياها" أُغلِق نهائياً، لأن التشريع الحاكم يخلو من تجريم مثل تلك "الأفعال"، بينما تم سحب النائب فيصل المسلم وأُغرِق في سيلٍ من دعاوى التعويض، وكأنه هو السارق، أو الراشي، لأن القانون يقول بذلك، فأي قانون ظالم، وأي تبرير يتعين علينا أن نبلعه بحجة ضرورة "سلامة الإجراء" القانوني للكشف عن جرائم الفساد؟!
نرى أمام أعيننا أجساد الجريمة في أمثلة لا حصر لها، نشاهد ونكاد نلمس باليد، على سبيل المثال لا الحصر، استاد جابر، أو مستشفاه، أو جامعة الشدادية أو تفكيك الأرصفة ثم إعادة الترصيف، أو الحالات المزرية لأبنية المستشفيات، وإهمال وتغييب أي حلول حقيقية لأزمة السكن، وارتفاع أسعار الأراضي لأن مصالح الكبار مرتبطة بها، ونتذكر أيضاً محطة مشرف للمجاري، ونتذكر قبل كل ذلك منذ التحرير، استثمارات إسبانيا، وقضايا الناقلات، وصفقات الدفاع، وهاليبرتون، وبالتأكيد يستحيل أن نحصر جرائم الفساد في الدولة، طالما أن حبل الفساد، كان، ومازال، على الغارب.
لنترك كل ذلك جانباً، وأحاول أن أسمع كلمة واحدة اليوم من الحكومة، أو من أي نائب من نواب ما بعد مجلس فبراير 2012 يسأل عن مسألة بسيطة، عن استاد جابر، على سبيل المثال، يسأل الحكومة، مَن المسؤول، هل المقاول، أم المصمم أم المشرف، أم كل هؤلاء جميعاً؟… لا أجد أحداً.
الحذر من استهلاك ميزانية الدولة بسبب تزايد بند الرواتب والأجور، ومخاطر العجز القادم لا نختلف عليها، لكن أين الحل؟! الحلول عندكم ولا أحد يشارككم يا كبار، ولنكرر دون ملل، لا نخشى أن ضيق الحال إذا تقلصت دولة الخدمات على رداءتها، ولا نخشى، كمثال، أن تزيد الرسوم أو تُفرَض الضربية التصاعدية في المستقبل، لكن قدِّموا لنا دليلاً واحداً، على جديتكم في وضع الأمور في نصابها الصحيح، هل تعرفون شيئاً اسمه الإدارة الحصيفة، وهي إدارة العدل، أم أنكم، بحكم العادة المتخلفة، لا تستطيعون الفكاك من قدر السير على البركة… إلى متى؟!