عندما كنت في بيروت في بداية السبعينات، وتصادف مروري في صباح ربيعي جميل بحشد من المارة والسيارات التي أغلقت الطريق، وكان الجميع ينظرون الى شخص يقف على حافة بلكونة في الطابق الرابع من فندق رخيص، مهدداً برمي نفسه، منتحرا! وكعادتي، لم أقف، غيّرت اتّجاهي، وذهبت لحال سبيلي. وفي اليوم التالي كان خبر انتحار ذلك المسكين على صدر صفحات الصحف، فقد كان لبنان أقل انشغالا وقتها بأخبار القتل والتفجير، وحادثة انتحار كتلك كانت تأخذ حيزها من الاهتمام. تبين أن الرجل، الذي نفّذ تهديده ولقي حتفه، كان «تاجر شنطة»، قبطي مصري، اضطربت احواله المالية فلم يجد بداً من التخلّص من حياته. الطريف، او المحزن في الموضوع، أنه لم يكن جادا في محاولته، فقد وقف على طرف الشرفة لأكثر من 4 ساعات، قامت خلالها الشرطة بإرسال رجل دين قبطي ليقنعه بالتخلي عن محاولته، لأنها ضد العقيدة، ولكنه لم ينصت اليه! وعندما أرسلوا إحدى فتيات الليل لتبين له مباهج الحياة وما سيفقده إن انتحر، كان مصير محاولتها كمصير محاولة الكاهن، واستمر في كتابة الرسائل لزوجته وأبنائه، والقائها على المارة، طالبا منهم إيصالها الى سفارة بلاده. ولكن بعد فترة تعب «الحضور الكريم» من الانتظار، وأرادوا نهاية للمسرحية، فتعالت أصواتهم مطالبة الرجل إما بالانتحار واما الانسحاب، وصدرت منهم شتائم ووصفوه بالجبان، ويبدو أن المسألة «كبرت برأسه» فرمى نفسه ليتحطم على اسفلت الطريق! وعبر مانشيت «النهار» في اليوم التالي أصدق تصوير لما حدث، حيث وصفت مأساة الرجل بقولها: «لقد انتحروه، ولم ينتحر»! فان يقف ذلك الرجل لأربع ساعات على طرف الشرفة دليل على تشبثه بالحياة، ولو لم يستفزه المارة، لربما تعب من الوقوف، وعاد الى غرفته!
تذكرت تلك القصة عندما قرأت خبر وفاة اثنين من العمال تحت انقاض بيت الشيخ خزعل بن مرداو، شيخ المحمرة، وصديق عمر الشيخ أحمد الجابر الصباح، الذي بنى قصره بجانب قصر صديقه، حيث مات العاملان وهما يحاولان ترميم مبنى القصر المتهالك! المشكلة أن ذلك المبنى القديم، أو ما تبقى منه، كان معرّضا للانهيار التام، وكان الدخول له مشروع انتحار، فقد تأخر ترميمه لنصف قرن، على الأقل! وبالتالي، فإن العاملين المسكينين، على الأرجح، لم يموتا تحت الأنقاض، بل قُتلا.
ويبدو واضحا أن ما حصل للعاملين وللقصر، من ترك الأمور لكي تتفاقم، تشبه – تماما – قضية «البدون» التي تركت لأربعين عاما من دون حل حتى تفاقمت واصبحت صعبة الحل جدا. وتأجيل الحلول سياسة حكومية معروفة منذ سنوات طويلة! فلو اتخذت الحكومة قرارها في ستينات القرن الماضي، وحلت مسألة «البدون»، لما وصلت الحال بنا وبهم الى هذا الوضع المأساوي. ولو رمم قصر الشيخ في الوقت المناسب لما مات العاملان تحت أنقاضه، ولو كان لدى مسؤولينا الرؤية الواضحة، لأزالوا المبنى من أساساته وأعادوا بناءه بطريقة صحيحة، في موقعه وبتصميمه نفسيهما، وجعلوه متحفا جديرا بالارتياد، كما حصل مع مبنى المستشفى الأميركاني!
أحمد الصراف