في العقود الماضية كانت القبائل هي السور الواقي للسلطة التي عرفت كيف تستخدمها في تحقيق اهدافها وبسط نفوذها، وكان لشيخ القبيلة دور في ترويض الافراد لطاعة ولاة الامر، حيث كانت السلطة مصدر رزق لهؤلاء، فكانت النتيجة ان القبيلة ومن يتبعها يسيرون في ركاب السلطة ويدورون معها اينما دارت.
ولكن بعد ثلاثة عقود من العمل بالدستور تبيّن لابناء القبائل انهم كانوا يسيرون خلف سراب! اذ بعد كل هذه السنين وجدوا انفسهم يراوحون مكانهم بينما غيرهم سبقهم في كل المجالات الوظيفية والقيادية، واكتفى معظمهم بوظيفة مراقب في البلدية (مركز بلدية.. يداوم في زام العصر ثلاثمائة موظف) او هجان في «الداخلية» او غيرها من الوظائف البسيطة! لذلك حصل التمرد اول ما حصل في مجلس 1985، ثم بدأ التحول في توجه ابناء القبائل وتمردوا على مشايخ القبيلة واصبحوا يحددون توجهاتهم وفقا لمرئياتهم الى عام 1989، حيث شاركوا بكثافة في دواوين الاثنين، وتشرفت حينها بإلقاء محاضرة في ديوان الرمز عباس المناور تحت عنوان «مضى عهد الفداوية»، واصبحوا هم وقود المعارضة السياسية الى يومنا هذا. وقد حاولت السلطة عبثاً احتواء الموقف لكنها فشلت، حيث فلت الزمام من يدها، واصبح حليفها ينعت بالانبطاحية والتسلق كالطحالب! حتى وصلت الحال الى ان تخرج المناطق الخارجية فحول المعارضة واقطابها، ولم يتمكن اتباع السلطة والمحسوبون عليها من النجاح الا بشراء الذمم وفتح ابواب وزارات الخدمات لهم علّ وعسى ان يحافظوا على كراسيهم، لدرجة اني سمعت احدهم يقول انه تمكن من تسجيل اربعين طالب ضابط في وزارة الداخلية وحدها! وارسال اكثر من مائتي مريض او متمارض للعلاج في الخارج على نفقة الحكومة!
اليوم تسعى السلطة الى تدارك الوضع والاهتمام بالقبائل من جديد، وهذا شيء طيب ان تحرص القيادة السياسية على لم الشمل والتواصل مع جميع اطياف المجتمع، لكن مع الاسف ها هي الغلطة تتكرر وها هو التاريخ يعيد نفسه وها هو السيناريو الجديد يكتب باللغة القديمة نفسها!
اقول ذلك بعد تشرفي بحضور لقاء سمو الامير مع اخوانه وابنائه من قبيلة بني رشيد العبسية وبدعوة كريمة من شيخ القبيلة محمد مفرج المسيلم، وقد لاحظت ان كلمة الشيخ بن مسيلم كتبت له وفرضت عليه ليقرأها من دون تغيير! وقد كان واضحاً ان توجهاتها بخلاف «المود» العام للقبيلة وله شخصيا! فالولاء للاسرة لم يشكك فيه احد باستثناء اتباع السلطة الذين يقتاتون على تشويه صورة الآخرين، كما ان إلزام شيخ القبيلة باعلان رفضه لمطالب المعارضة السياسية هو تصرف غير حصيف ودليل على اننا لم نتعلم من الماضي، وتكرار عبارات الولاء المطلق يوحي بان هناك من يحمل خلاف حبه وولائه لاسرة الحكم، وهذا خلاف الحقيقة والواقع الذي طالما اكدناه، وهو ان انتقادنا لقرارات الحكومة لا يعني ابدا انتقادنا للحاكم. وخير ما قيل في هذا المقام ما ذُكر في مبادرة الاصلاح في البند الحادي عشر من المبادئ (… ان سمو الامير يبقى رمزا للدولة والوطن… وبالتالي يجب التفريق بين ذات الامير الرمز وبين قرارات الامير السلطة لتبقى الذات مع مسند الامارة فوق كل مساس ولتبقى القرارات قابلة لتداول الرأي…). ثم جاءت كلمة نائب رئيس مجلس الامة والتي هاجم فيها كل من لم يشارك في انتخابات الصوت الواحد ونسي ان شيخ قبيلته، الذي تحدث قبله، كان اول المقاطعين! وهكذا توحي لنا مجريات الاحداث اننا نريد الرجوع الى الماضي الذي تم رفضه والذي بسببه تحولت المناطق الخارجية الى مركز توليد لرموز المعارضة السياسية، وكأنك «يا ابو زيد ماغزيت»!
نصيحتي اليوم للسلطة ولكل من يهمه امر هذا المجتمع ان القبائل اذا تقدمت خطوة الى الامام فانها لن ترجع الى الوراء، وان شيخ القبيلة يمون على ابناء قبيلته اذا كان حرا طليقا، لكن متى ما شعر اتباعه انه مكبل اليد واللسان وان في فمه ماء، عندها لا طاعة له ولا ميانة، هذه الحقيقة الاولى. اما الحقيقة الثانية وهي ان هؤلاء المتزلفين الذين يقتاتون على المدح والذم فانهم لن ينفعوا السلطة بشيء الا بمزيد من التضليل والايحاءات الخاطئة! وحري بالنظام ان يتحرى الحقيقة من واقع الناس لا مما تكتبه تقارير الاستخبارات والامن! نصيحتي الثالثة والاخيرة وهي ان ابناء القبائل اليوم لا يريدون الا تطبيق القانون على الجميع والمساواة في الحقوق والواجبات من دون تمييز، وعدم اعتبارهم مواطنين درجة ثانية ما لم يكونوا من صنف «آمر طال عمرك وحنا عصاك اللي ما تعصاك».