بقدر ما أفرح البيان الختامي للمؤتمر العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الكثيرين يوم الأربعاء (25 ديسمبر/ كانون الأول 2012)، بقدر ما أحسست، كما أحس الكثيرون أيضاً، بأن في «بيان الحريات» صرخة مكتومة موجعة!
ولربما جاء المؤتمر الذي استضافته البحرين في الفترة من 22 حتى 25 ديسمبر 2012 في نسخته الخامسة والعشرين، كفرصة سانحة لأن يسجل المشاركون موقفاً للتاريخ، ويطلقون تلك الصرخة التي لم تكن مكتومة بقسوة خلال العامين الماضيين في ظل ثورات الشعوب فحسب… بل كانت مكتومة منذ عقود من الزمن.
كنا على الدوام ومنذ سنين طوال، نسمع، في التصريحات وفي الكتابات الصحافية وفي الديباجات العظيمة المنمقة للحكام والرؤوس الكبيرة؛ أن الأدباء والكتاب والمفكرين هم نخبة الأمة وحصنها، وهم الذين يبنون نهضتها بفكرهم، وهم وهم وهم… بل حتى البيان الختامي ذاته لم يخلُ من مثل تلك الديباجة (وإن بصياغة قلَّ نظيرها) كما في هذه الفقرة نصّاً: «وتأسيساً على حرية الكتاب والأدباء وجمهرة المبدعين من حيث سياق الإبداع الأتم، وضرورة الوعي والكتابة؛ فإن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، يرى في الحرية فضاءً لما يحقق الخير العام الذي يجد في صميم الحرية ضمانة لتوسيع الجماليات في منازلة القبح والانكسار و(السقوط الكابي) والمريب».(انتهى الاقتباس).
الحرية كما يراها المثقفون هنا، تواجه في صميمها القبيح وتنازل السقوط الكابي! والكابي بحسب المعجم الوسيط، هو التراب الذي لا يستقر على وجه الأرض أو الفحم الذي خمدت ناره، ولعل استخدام مثل هذه المفردات، يعكس حقيقة ما تشعره هذه الفئة قبال دورها المهم المقصى قسراً… إي نعم.. كثيراً ما سمعنا عن أدوار النخبة المثقفة في المجتمعات العربية ومكانتها، لكن كل ذلك انكشف – بدرجة مذهلة – منذ أن عصفت بالمنطقة العربية رياح الثورات العام 2010! فتوارى الدور النهضوي لتلك الفئة، واستبدلت بنماذج من الكتاب والأدباء والإعلاميين والفنانين والراقصين والراقصات والساقطين والساقطات ممن قاموا بالدور نيابة عن مثقفي الأمة الحقيقيين. فكان نتاج عمل (البدلاء) الرخيص كمن استخدم (خشباً) كوقود لزيادة تأجيج الشعوب عبر الضحك على عقولهم وخداعهم، والتكسب من وراء أدوار أدوات السلطة في تخدير الشعوب والعبث بفكرها وثقافتها وحقها في المعرفة النقية.
قبال ذلك، وجد المثقف الحقيقي نفسه محاصراً بثلاثة خيارات: إما الانضمام إلى جوقة البدلاء الرخيصة وهذا ما تسامى عنه الكثيرون؛ أو اللعب على الحبلين بمسك العصا من المنتصف ودغدغة السلطة تارة والشعوب تارة أخرى وهذا ما فعله القليلون؛ والخيار الثالث هو ألا تأخذه في الله لومة لائم وأن يقول الحق ويناصر المطالب المشروعة، ويقدم رقبته من أجل صلاح الأوطان والشعوب، وهؤلاء قلة أيضاً لربما تجدونهم اليوم في السجون أو في المنافي، قريبة من الأوطان كانت أم بعيدة.
لماذا وصفت انكشاف أدوار مثقفي الأمة بـ «درجة مذهلة»، في باكورة الثورات أكبر مما كان عليه الوضع في السابق؟ ذلك أيضاً عرج عليه البيان في تعديده لما يتعرض له المثقفون من تهديد وإهمال وتضييق واستهداف لم يكن وليد الثورات، بل كان هو الوضع السائد منذ عقود مضت في الوطن العربي، أليس كذلك؟ لكن مع ذلك، فإن الأدباء العرب قدموا «الإحسان» قائلين في بيانهم: «إن التحولات التي يمر بها وطننا العربي، وما يتعرض له من خلخلة هنا أو هناك، ليحتم على المؤتمر العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب أن يضطلع بمسئولياته في حماية الكتابة والمبدعين بما يجعلهم يمارسون دورهم المعرفي والحضاري باقتدار وعافية وعنفوان (كيف؟)… بعيداً عن الرقابة الجاثمة واستهداف المبدعين وملاحقتهم وسجنهم والحد من حريتهم وانتقاصها».
وفي الواقع؛ تمنيت أن يوجه الاتحاد في مؤتمره أصابع الاتهام إلى الحكومات العربية التي أجرمت في حق شعوبها وتبنت الحركات المتشددة المعادية للحقوق وللحياة الكريمة، وهو يشير إلى تصاعد محاولات بعض الحركات الأصولية والسلفية والميليشيات المسلحة والطائفية التي تلجأ للحد من الحريات المدنية العامة ومصادرتها، والحد من حرية الفكر والتعبير ومصادرة الكتب أو سحبها من بعض معارض الكتب العامة! فتلك ممارسة رأى فيها الاتحاد (سياقات لا تليق بالإبداع والمبدعين)، لكن هناك إشارة لا بأس بها وهي أن مداخلات الاتحاد العام في أكثر من مجال آتت أُكلها حيث تم التراجع عن بعض الأفعال التي استهدفت الكتاب، وليس آخرها الإفراج عن الشاعر القطري محمد العجمي.
الصرخة المكتومة للأدباء صدحت باستهداف السلطات في غير بلد عربي للأدباء والكتاب بالملاحقة والسجن، وعدم رعاية الأدباء، واستمرار إغلاق بعض وسائل الإعلام من صحف وقنوات فضائية، ومحاصرتها، ومحاولات الاعتداء على العاملين فيها والمتعاملين معها، مواجهة المسيرات والاحتجاجات والتجمعات والاعتصامات السلمية والمعلن عنها بغير وسيلة تصل إلى القمع المسلح في كثير من الأحيان. أما بالنسبة للتهديدات، فهذه وردت أيضاً بصيغة تقول إن الأدباء والفنانين والمثقفين في غير بلد عربي تعرضوا لتهديدات مباشرة أو غير مباشرة من قبل قوى وتيارات وجماعات دينية وطائفية متطرفة ضد حرية التعبير والفكر، من خلال التهديد بتكفير وتأثيم الثقافة أو بعض تنوعاتها ومظاهرها، أما مسألة الحيلولة دون دخول بعض الإصدارات من وإلى بعض الدول العربية؛ فهذه نشيدة قديمة ما عادت تُطرب.
لم ينتهِ الأمر هنا! فهناك «البيان الختامي» الآخر الذي شمل العديد من النقاط المهمة، لعل أهمها هو التصدي للخطاب التكفيري والإقصائي الذي تكون عناصره مهددة للأمن القومي الثقافي وللوحدة الوطنية، وأن يترافق مع ذلك الترشيد والحكمة، والتأكيد على ضرورة تكريس فكرة الدولة المدنية.
جميل جدّاً… لربما تكون الإجابة المتخيلة أو المتوقعة أو الواردة بقوة من جانب الحكومات العربية كرد على بياني الأدباء والكتاب العرب: «أحسنتم… شكر الله سعيكم»، فالميت لا تجوز عليه إلا الرحمة.