بسهولة مطلقة، ودون أي موانع، يستطيع أن يتغنّى أصحاب الولاء والانتماء المصلحي المزيف، وهم يدّعون أنهم يحبون الوطن ويمجدون أيامه الوطنية، أن ينعشوا تجارتهم في مناسبة وطنية بكرنفالية مغلفة بالحقد تقوم على شعار «الخونة»!؛ فالمساحة مفتوحة لديهم لأن يرموا من يخالفهم مذهبياً وسياسياً من أبناء الوطن بتلك التهمة، وكأنهم بذلك يعبرون عن سعادتهم بالعيد الوطني أو يوم الاستقلال أو أية مناسبة وطنية.
البحرين لا تنجب «خونة»، شاء المتّهِمون المرجفون أم أبوا! وإذا كانت هذه التهمة مستساغة لذيذة المذاق لأن تطلق تحديداً على جمهور المعارضة الوطنية، فإن عليهم أن يدركوا بأن إحياء الأيام الوطنية إنما ينطلق في جوهره من الترويج الإيجابي لما يمكن أن يسهم في استقرار الوطن وإنهاء ملفاته السياسية والحقوقية والاقتصادية والمعيشية المضنية.
ليست صورة «النفاق» الممجوج تلك التي يتمتع بها أدعياء المواطنة الحقة نافعة للوطن بأي حال من الأحوال، فهم يعلمون جيداً أنهم يتسببون في إلحاق أكبر الضرر بالسلم الاجتماعي لتبقى مصالحهم الذاتية، لكن هذا الأمر، والذي يتوجب على السلطة أن تتصدى له ولرؤوسه من المتكسبين من إشعال نيران التأزيم، سببت ولاتزال، إرباكاً في الحالة البحرينية حتى وإن سلمنا أن هناك «حواراً ذا مغزى»، فإن تجار الوطنية الزائفة، يعمدون إلى تكرار تلك الاتهامات السخيفة، خصوصاً أنهم يرون من قالوا عنهم طيلة عامين «خونة»، مدعوين للتحاور!
***
مررت على أرشيف السادس عشر من ديسمبر/كانون الأول، لأقف على بضع كتابات جميلة في «الوسط»، ففي ذلك اليوم من العام 2002، كتب رئيس التحرير، منصور الجمري، في مقال بعنوان: «المصلحة العامة أولاً وأخيراً»… «إن البؤر الفاسدة تمتص خيرات البلاد تماماً كما تمتص الثقوب السوداء في الفضاء الكوني كل شيء يمر أمامها ويختفي ذلك الشيء إلى ما لا نهاية».
وفي فقرةٍ أخرى من المقال ذاته: «ما فائدة الديمقراطية وحرية التعبير إذا لم نتمكن، مجتمعاً ودولة، من الوقوف أمام المفسدين مهما كان هؤلاء؟ والحديث الذي يدور بين الناس هو أن المفسد إذا كان من أصحاب النفوذ فإن العقاب لن يطوله لأن لديه أكثر من وسيلة للتخلص من المشكلة. أما إذا كان ممن كتبت لهم التعاسة في الحظ وليس له نفوذ فإن فساده الصغير ستتم ملاحقته قانونياً».
شخصياً، كتبت في يوم السادس عشر من ديسمبر من العام 2005 في مقال عنوانه: «البضاعة الكاسدة»، أنه «لا مكان للبضاعة الكاسدة التي تخصص البعض في التسويق لها وترويجها في دكاكينهم المشبوهة ومتاجرهم الرخيصة، حين يصر أولئك التجار على ترويج بضاعة (التشكيك في الولاء والانتماء) ويمارسون الطقوس السوقية (متعددة الوسائط) ويعملون جاهدين مستغلين كل منبر ومحفل ومعقل للصياح بصوت عالٍ لإسماع الحكومة ومسئوليها ولإيناس مريديهم بتوجيه تهم التشكيك في ولاء مواطنين في هذا البلد الكريم، والإصرار على توجيه هذه التهمة في صور ذات ألوان متعددة ومقاسات مختلفة تناسب المرحلة، من أجل أن يقولوا: إنهم أصحاب الولاء والإنتماء الحقيقي للبحرين ولحكومتها ولشعبها ولترابها… أمّا دونهم من الناس والأجناس والمذاهب والمشارب.. فلا.
تلك بضاعة كاسدة حقاً؛ فالوطن ليس قصيدة تلقى على مسامع الجماهير، وليس أهزوجة في كرنفال بهيج، وليس أرضاً بلا سماء. ليس الوطن مسرحاً للتناحر وإثبات الولاء بهدم الولاء، وإعلان الانتماء بطمس الإنتماء.
الوطن نبض لا يتوقف، ينطلق من قلوب كل البحرينيين ويسري في عروقهم، فتمتد أياديهم بالعطاء والبناء والخير… لا بالهدم والتفتيت والشر».
وتحت عنوان: «وهل الوطن إلا الحب»، عاد بنا الزميل، حيدر محمد، إلى السادس عشر من ديسمبر من العام 2007، فكتب: «مازالت هناك عشرات الآلاف من العوائل البحرينية التي لا تعيش استقراراً أسرياً بسبب الضغط المعيشي الذي تضاعف مع التضخم غير المسبوق في الغلاء الفاحش الذي طال كل ما قد يتصوره أحد، حتى في المواد الاستهلاكية الحيوية، وهناك التحدي الكبير الذي يتمثل في تقلص الطبقة الوسطى، وكل ذلك يدعو المجتمع للضغط في اتجاه إعادة توزيع الثروة، والخطوة الأولى هي تحديد الموارد والمداخيل وتحديد آليات عصرية لتوزيع الثروة تضمن الرقابة البرلمانية الفعالة، وكذلك تحديد المخزون المتوافر من الأراضي، وتوزيعها وفق نظام عادل، وهذه المعالجات المهمة ضرورية، بمعنى أن عدم تحقيقها سيجعل من مشروعنا الإصلاحي قاصراً عن تلمس احتياجات الطبقات الشعبية العريضة». (انتهى الاقتباس).
كثيرة هي القضايا والهموم والشئون والشجون التي يمكن أن نطرحها بكل صراحة لكي نبني، حتى وإن اتهمنا المرجفون بأننا نسعى للهدم. مشكلة المجتمع البحريني أنه ابتلي بجوقة من المنافقين الذين يتكاثرون بشكل مذهل، ليخونوا الوطن بنفاقهم وروحهم العدائية للنسيج الوطني وللسلم الاجتماعي، ثم يدّعون أنهم أسهموا في إعلاء عنوان الوحدة الوطنية.
كل عام وهذا الوطن الكريم العريق بخير.