يتمنى أتباع «العقلية المتخاذلة»، وهم يتابعون أوضاع الثورات العربية وارتداداتها، أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل اشتعال تلك الثورات! فتلك أيام «سكينة» وهدوء واطمئنان «وكفى الله المؤمنين شر القتال»، حتى وإن كانت تحت سيطرة الحكم الشمولي الاستبدادي! الركاز الذي يعتمدون عليه في نظرتهم تلك هو حالة الاضطراب المستمرة في دول الثورات التي لم تهدأ حتى الآن، وكأن الناس ثارت لكي تطيح بطاغية مستبد وتنتخب آخر والسلام، حتى وإن بدأ يلعب بذيله.
العودة الى زمن «خنوع الشعوب العربية» أمر مستحيل، فالأمة اليوم أمام جيل شبابي لا يقبل بالحلول المخادعة ولا أنصاف الحلول، ولا يمكن استدراجه للوقوع في شباك شكل جديد من الحكم استغل انتفاضة الشباب العربي ليصعد على أكتافهم ثم يمارس شكلاً جديداً من الحكم الاستبدادي.
الشعوب العربية تقودها اليوم حركات الشباب المتعلم الذي لن يقبل بأن تكون الأمة، تحت نظام حكم، لا يعترف بالشعوب كمصدر للسلطات. ولن يتباكى ليقول: «ليت الماضي يعود وكفى»! فهو يؤمن بأن لكل مواطن عربي الحق في أن يعيش حرّاً لا عبداً لأي نظام حاكم يدير البلد وفق هوى حزبه.
ما تعيشه الأمة العربية، سواء في بلدانها التي لاتزال الثورات فيها ممتدة عبر مسارات جديدة، أم تلك التي ستصلها لا محالة، ارتدادات تلك المسارات (إن لم تبادر الأنظمة إلى الإصلاح الحقيقي الذي تنشده شعوبها)، ما تعيشه هو انتفاضات شبابية عصية على الاستيعاب الإيديولوجي كما يقول الباحث الموريتاني السيد ولد أباه في كتابه: «الثورات العربية الجديدة: المسار والمصير.. يوميات مشهد متواصل»، الذي ناقش الحركات الاحتجاجية في أكثر من بلد عربي ليجزم بأن رهان تلك الحركات يتمثل في إنتاج صيغ عيش جديدة، وخروج من منطق القمع والوصاية، والتأكيد على قيم الحرية الفردية والفاعلية الإنسانية في مجتمعات متكلِّسة ضاقت فيها فرص الاندماج الجماعي والإبداع الفردي وفرص التداول على السلطة.
والمطالب السياسية، كما يرى المؤلف، تدخل نفسها في هذا المنطق، باعتبارها تتجاوز التسيير الديمقراطي للحقل السياسي، ومن هنا نُدرك أن هذه الثورات الشبابية العصيَّة على الاستيعاب الإيديولوجي، تنضح بالمُثل الليبرالية الحالمة، وتجسِّد حالة الانفصام العميقة بين الطبقة السياسية والأجيال الصاعدة في العالم العربي. بل ويؤمن المؤلف بأن أحداث تلك الثورات وأدواتها الاحتجاجية لم تكن إلا تعبيراً واضحاً عن هذه السِّمات المذكورة، فلا فرق هنا بين منطق الانتحار بالاحتراق والاحتشاد الاحتفائي في الميادين العامة، فكلاهما استخدام ناجع لسلاح الجسد في فظاعته التعبيرية المؤلمة في «الاحتراق»، أو في متعته الاحتفالية! فقد جاء الجسد هنا مُحمَّلاً بقدرات ائتلافية ترابطية، لا تحتاج إلى خطابة السياسيين والدعاة والحكماء. ومِن هنا تكمن المصاعب الجمّة لصياغة مطالب الشباب الثائر في مشاريع سـياسية أو رؤى إيديولوجية منسجمة. (انتهى الاقتباس).
القوى الشبابية ذاتها الفاعلة على الساحة العربية اليوم، ليست منساقةً إلى فكرة أن القوى الإقليمية ستعينها في حركاتها المطلبية للتحرر من الأنظمة الاستبدادية، وقد تناول الباحث صبحي غندور (موقع اتجاهات)، البحث في مصير الحراك الشعبي العربي، وله وجهة نظر مهمة يؤكد فيها على أنه «ساذج» من يعتقد بأن «القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة، بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسئول الأول عن تخلّفها وعن أنظمتها وعن تقسيمها، ثم عن زرع إسرائيل في قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها واستنزاف الدول المجاورة لها في حروبٍ متواصلة، وقد كانت هذه الدول الكبرى، ولاتزال، مصدر الدعم والتسليح والتمويل لهذه الحروب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين والعرب، وها هي الآن تتحدّث عن الحرّية للشعوب العربية، بينما لايزال محظوراً لدى هذه الدول أيُّ تفكيرٍ لتجديد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فكيف بمقاومته عسكريّاً! الانتفاضات الشعبية العربية تحدث في أوطانٍ غير مستقرّة، لا دستوريّاً ولا اجتماعيّاً، ولا هي (أي هذه الانتفاضات) موحّدة سياسيّاً أو فكريّاً، ولا هي متحرّرة من أشكال مختلفة من التدخّل الأجنبي والإقليمي، وهذا الأمر يزيد الآن من مسئولية قوى التغيير والمعارضات العربية، ومن أهمّية تنبّهها لألا تكون وسيلةً لخدمة أهداف ومصالح غير أهداف ومصالح شعوبها».
والباحث يلقي باللائمة أيضاً على القوى السياسية المعارضة في الوطن العربي حينما عجزت عن البناء السليم لنفسها: فكراً وأسلوباً وقيادات، فساهمت عن قصدٍ أو غير قصد في خدمة الحكومات والحكّام المستبدين الفاسدين، فهناك ملاحظات كثيرة على ماهيّة «الأفكار»، وطبيعة «القيادات» التي تستثمر «أساليب» الانتفاضات العربية، فلا يجوز طبعاً أن تكون «الأساليب» السليمة لخدمة أفكار ومشاريع وقيادات غير سليمة، تسرق التضحيات والإنجازات الكبرى، وتُعيد تكرار ما حدث في السابق في المنطقة العربية من تغييراتٍ كانت تحدث من خلال بعض الانقلابات العسكرية أو الميليشيات المسلحة، ثم تتحوّل لاحقاً إلى أسوأ ممّا كان قبلها من واقع. أيضاً، لا نجد الآن في كلّ الانتفاضات الشعبية العربية، التوازنَ السليم المطلوب بين شعارات: الديمقراطية والعدالة والتحرّر والوحدة الوطنية ومسألة الهوية العربية.
التغيير الإيجابي المطلوب في عموم المنطقة العربية، هو مدى تحقيق هذه الشعارات معاً، وليس شعار الديمقراطية فقط – كما يحلل صبحي غندور – إلاّ إذا كان ما يحدث الآن هو تنفيذٌ لما دعا إليه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن في العام 2004 في قمّة «الناتو» في إسطنبول، من تشجيع للتيارات السياسية الدينية على الأخذ بالنموذج التركي الذي يجمع بين الإسلام والديمقراطية، في دولةٍ هي عضوٌ في «الناتو» ولها علاقات طبيعية مع «إسرائيل»!