انقلاب موريتانيا يعيد تعقيد أوضاع هذا البلد العربي الأفريقي الذي تقلبت فيه السياسة، كما تتقلب في دول عربية عدة. كان انتخاب ولد الشيخ عبد الله رئيساً منذ عام بداية تفاؤل لموريتانيا، خصوصاً أنها أول انتخابات منذ 25 عاماً. لقد أطاح الانقلاب العسكري بهذا التفاؤل. هكذا ستلحق موريتانيا غيرها من دول عربية وإسلامية جربت الديموقراطية لأيام أو لشهور أو لأعوام، ثم انقلبت عليها بعصبية وعضب. تجربة السودان في زمن المهدي، على سبيل المثال، لا تختلف عن موريتانيا، فبعد انتخابات ديموقراطية جاء البشير بانقلابه عام 1989 بحجة فوضى الديموقراطية. وتجربة الجزائر، عندما تم إلغاء نتائج الانتخابات ماثلة أمامنا، وقد نتج من إلغاء نتائج الانتخابات حرب أهلية دمرت الجزائر.
إن أساس الانقلابات، كما تشهدها دول العالم الإسلامي والأفريقي، قلة الصبر، وعدم تحمل بناء تحالفات ناضجة ومساومات وحلول وسط للقضايا الأساسية. إنها تعكس في الوقت نفسه تعطشاً للسلطة والنفوذ، وسعياً إلى السيطرة التي لا تحدها حدود ولا يقف أمامها قانون أو دستور. في تاريخ العرب الحديث ومنذ أواسط القرن العشرين كانت قيادات الجيش تقرر أن تنقلب معتقدة أنها أقوى السلطات في البلاد، وهي سلطة السلاح. ولكن هذه السلطات التي تأتي بالانقلاب تأتي خائفة من الآخرين، من الآراء المختلفة ومن الأحزاب الأخرى، ومن المعارضين المشككين بشرعيتها، ومن موظفي الدولة والشخصيات الوطنية، فتمعن في الخوف والتنكيل والتصفية وتنصب المشانق. فمن يأتي على ظهر دبابة عليه أن يبقى خائفاً من دبابة أخرى، وعليه بعد ذلك أن يدمر الجيش والمؤسسة العسكرية والقيادات في المجتمع والأحزاب والتيارات، لكي لا تقوم بعمل ما قام به في يوم من الأيام. وعادة ما تهدأ الأمور بعد أعوام طوال، ولكن ما أن تهدأ إلا وتبرز أصوات المعارضة الجديدة مرة ثانية، ويبدأ الحديث عن عودة المنفيين وتسوية المشكلة والانتخابات. وما أن تقع الانتخابات إلا ويأتي راكب جديد لدبابة جديدة ليغتصب السلطة. هذه دائرة مفرغة تؤدي إلى حرق المحصول وتدمير كل منتوج قبل أن يثمر ثمرته. إن البلاد التي يحكمها الانقلاب العسكري هي بلاد فشلت في صوت السياسة وفي حل مشكلاتها وفق الأسس السياسية، وهي بالتالي تنقل أزمتها إلى مرحلة جديدة.
إن مشكلة موريتانيا هي المشكلة ذاتها التي تواجهها العديد من الدول العربية والإسلامية. فالطموح للسلطة بلا تقدير للشرعية التي يجب أن تتضمنها السلطة، والسعي إلى تقديس القوة المسلحة بلا معرفة بحدود القوة، يجعل بلادنا من أقصاها إلى أقصاها معرضة إلى الانقلابات. ففي دول تخشى أنظمتها من النقد ومن الانتخابات، ومن الأحزاب ومن التيارات، ومن الأصوات، ومن الهواء ومن الحريات، ومن العالم الخارجي، ومن العالم الداخلي، ومن التاريخ، ومن المستقبل، يصعب تشكيل الديموقراطية بنجاح. وفي دول يدمر كل عهد جديد العهد الذي سبقه تصبح الديموقراطية معرضة إلى الدمار.
ما وقع في موريتانيا يناقضه جذرياً ما وقع في تركيا التي تقع على الجزء الآخر من العالم الإسلامي، وهي حلقة بين آسيا وأوروبا. ففي تركيا تم تشغيل السياسة وكان هناك الصبر والقانون والأخذ والعطاء والمساومات من أجل حل الإشكال بين إسلاميي العدالة والتنمية وبين المحكمة الدستورية التركية. في تركيا وقع خلاف، وكانت هناك اتهامات، ولكن البلاد أخذت خياراً مختلفاً في حل الخلاف في ظل التركيز على التنمية والارتقاء واعتماد الوسائل الدستورية. هكذا ستتقدم تركيا(ومنذ مجيء حزب العدالة والتنمية) النمو الاقتصادي في تركيا تجاوز 6 في المئة، بينما ستدخل موريتانيا نفقاً صعباً، كما دخلت قبل ذلك السودان ودول عدة أخرى. أمامنا دولتان إسلاميتان: كل واحدة منهما تسعى إلى مستقبل يختلف عن الأخرى. ما وقع الأسبوع الماضي في تركيا يؤسس لشيء مختلف عما وقع منذ أيام في موريتانيا.