إبراهيم المليفي

قصة قصيرة: هل أوقظه الآن؟

ذهب إلى الساحة التي ظن أنها خلت له ولأوهامه، جلب معه مايكرفون النضال لزوم الخطاب الناري الذي سيلقيه على الجماهير الغفيرة، دسّ أوراقا صغيرة في جيبه العلوي من بينها وصل استلام لسانه من صندوق الأمانات، كان قد تبرع فيه في معركة تخريس الأصوات وتكسير الرؤوس الحارة.
المناضل الهمام وهو في الطريق لاحظ أن الطرق المؤدية للساحة خالية من المركبات، في حين تؤكد حركة خفيفة أنه ليس الوحيد على كوكب الأرض، أخذ يسأل رفيقه الجالس على يمينه، الرفيق منشغل بلسانه يحاول تركيبه بصعوبة في مكانه، أين الناس؟ أين الجماهير التي تبحث عن النضال الحقيقي المعقم من الشوائب؟ رفيقه نجح بتركيب لسانه، بلعه ليرطبه ثم عمل اختبارا سريعا (تست، واحد، فقط واحد، لا شي غير رقم واحد)، أجاب سريعا يريد التخلص من الحقيقة الماثلة أمامه، ربما هم خلفنا لننتظر قليلا.
وصلت سيارة المناضل وشلّة النضال المزعوم، نزل مسرعاً نحو صندوق السيارة، حيث وضع المايكرفون وعدة تكبير الأصوات، نصبوا المنصة، ربطوا الأسلاك بالأسلاك، فرشوا المنصة بسجادة خفيفة مغبرة مبقعة، ربما أخذوها كعربون صداقة من صندوق أمانات “الألسن”.
لا أحد، المكان مقفر، ترمومتر الغضب أخذ بالتصاعد إلى رأس المناضل العنيد، أين الناس؟ من وعدونا بالحضور يحسبون بالمئات، لقد قرأت كل “تغريدات” التأييد والمؤازرة، قطع تساؤلاته المتناسلة، وركض نحو رفيق أخذ يلتقط صورا ينوي نشرها في “خط الكلام” الذي لا يتوقف كنوع من الدعاية، وحث الجماهير على الحضور، أمسك يده بعنف وسحب منه الجهاز الذكي الذي أمسكه مناضل غبي ونهره: “تريد فضحنا؟؟”، لقد رأى أن نشر صور المنصة بدون جماهير ملتفة وهتافات صاخبة فضيحة بكل المقاييس.
شبح اليأس بين شلة المناضلين أخذ يضربهم على “قفاهم” واحدا تلو الآخر، وبينما هو على هذه الحال يضرب “قفا” هذا ويحمّر “قفا” المناضل الأكبر بضربات متلاحقة، تراءى للجمع هالة غبارية تقترب، ربما كانت حافلة مليئة بالركاب؟ أحدهم ردد ذلك، وأضاف: الحلم بالمدد الجماهيري أخذ يتحقق، أخيرا يا أهل النضال الحقيقي المعقم.
الشيء الضخم أخذ بالاقتراب أكثر فأكثر وتتضح معالمه أكثر، لم يكن سوى سيارة نجدة توقفت عند المنصة، لم يكلف الشرطي نفسه بالنزول، واكتفى بإنزال زجاج النافذة إلى المنتصف، تحدث بإيجاز مخاطبا شلة المناضلين: “التجمعات هنا ممنوعة، لديكم ربع ساعة لمغادرة المكان”، قبل أن يبدأ أحد الخبراء القانونيين بإلقاء محاضرة عن الدستور الذي كفل حرية التعبير، أغلق الشرطي النافذة وضغط بشدة على دواسة البنزين وانطلق مخلفا وراءه صدمة هائلة تشكلت من مرارة الواقع، وكتلة الرمل التي نبشتها إطارات سيارة النجدة.
انقشعت حالة الوجوم ودبت حركة عظيمة في أصابع المناضلين، لقد انتقل نضالهم من المنصة الموءودة إلى فضاء “التايم لاين”، أرعدوا و”هشتقوا” وصبوا حمم غضبهم على الدولة البوليسية القمعية، وفي وسط انشغالهم كتب لهم سجين رأي شبه دائم “المعذرة لقد دخلت السجن بسبب تغريدة، وأنتم من أيقظ ضابط أمن الدولة لأجلها، هل أوقظه الآن؟”، الأصابع الثورية تخشبت.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

إبراهيم المليفي

كاتب ومحرر في مجلة العربي الثقافية منذ 1999 وصاحب زاوية الأغلبية الصامتة بجريدة الجريدة منذ 2010

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *