محمد الوشيحي

مات الأصمعي أيها المتجيهلون

لم يعد لجاهلٍ عذر، ولم تعد كلمة “لا أعلم” مقبولة. ورحم الله الأصمعي، الراوية، الشاعر، الحافظ، عالم اللغة والتاريخ، وغير ذلك… رحمه الله، فقد كان في عصره هو وكالة الأنباء شبه اليتيمة، وكانت مهمته الطواف على القرى والمدن النائية، وزيارة البدو الرحل ومعاشرتهم، وحفظ قصائدهم وأخبارهم وعاداتهم وحكاياتهم ولهجاتهم، قبل أن يدوّن كل ذلك، ثم يرويه على مسامع الخلفاء بمقابل مجزٍ.
كان هو المصدر الوحيد، أو شبه الوحيد، للأخبار. كان هو المحرر، والمصحح، و”المدسّك”، أو المسؤول عن صياغة الأخبار، والمخرج، ونائب رئيس التحرير، ورئيس التحرير، وشركة التوزيع، وغير ذلك. ويكفي القول “قال الأصمعي” ليُعتبر الخبر موكوداً موثوقاً قابلاً للانتشار.
اليوم، أكثر من ألفي أصمعية فضائية يمتلئ بها التلفزيون (لا تقل “التلفاز” كي لا أغتالك فيتيتم عيالك)، ونحو ست وكالات أنباء عالمية كبرى، على ذمة سيد إعلاميي هذا الزمن، توفيق عكاشة (الناس كلها لا تعرف إلا الوكالات الأربع الكبرى، وهو وحده يعرف ست وكالات. يجوز لتوفيق ما لا يجوز لغيره، حتى وإن نطق اسم “اسوشييتد برس” هكذا “اسويشيوتيد بريس”).
ما علينا… في الكويت وحدها نحو إحدى عشرة أصمعية فضائية، أو أكثر (إذا حسبنا الفضائيات الرسمية)، وخمس عشرة أصمعية ورقية، ووكالة أنباء رسمية، وعدد غير معروف من الصحف الإلكترونية والخدمات الإخبارية الإلكترونية، وخدمات إخبارية فردية بعدد السكان، بعد أن امتلك كل مواطن ومقيم هاتفاً أو وسيلة إعلام خاصة… السؤال الآن؛ هل سنعذر من يقول: “لم أكن أعرف شيئاً عن ذلك الأمر الجلل؟”.
ويتذمر كويتي: “لا أعرف هل أشارك في التصويت في هذه الانتخابات أم لا… لا أدري أين المصلحة العامة”! لا تدري أين المصلحة العامة؟ اشتغلت خادمة عند المصلحة الخاصة، حفظك الله… كل هذا الوضوح ولم تعرف بعد؟!
وفي مصر كتب أحدهم: “هنتخب السيسي بس خايف لا يطلع ديكتاتور ودموي زي ما بيقولوا عنه خصومه”! يقول هذا الكلام، رغم أنه ليس بحاجة لمن “يقولوا”، مع وجود كل هذه الأصمعيات المتناثرة في الفضاء.
وإذا كان يقول مثل هذا الكلام في عصر كهذا، فماذا كان يمكن أن يقول لو كان يعيش في عصر الأصمعي؟… وكما أن هناك “متثيقفين” هناك أيضاً “متجيهلون”. يعلقون طمعهم أو خوفهم أو تملقهم على شماعة الجهل… والجاهل من يصدقهم.

آخر مقالات الكاتب:

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *