أحد الجنرالات الروس المتقدمين لاحتلال جورجيا تساءل: إن كانت الولايات المتحدة تحتل بغداد، فلماذا لا تستطيع روسيا أن تحتل أوسيتيا؟ هكذا هي الحال بالنسبة إلى أول هجوم وعرض للقوة خارج الحدود الروسية منذ نهاية الحرب الباردة. في هذه الحرب المفاجئة تؤكد روسيا بأنها ستقوم بإيقاف ما تشعر أنه يتعارض ومصالحها أكانت هذه المصالح اقتصادية، أم سياسية وأمنية في المنطقة المحيطة بحدودها؟ روسيا في هذه الحرب أكدت قدرتها على إفهام جورجيا بأنها لا تستطيع أن تمارس استقلالها وسياساتها بلا تفاهم مع روسيا، وأنه في حال وقوع الوقيعه فإن الغرب لن يكون قادراً على حماية جورجيا من الغضب الروسي. هذه الرسالة التي ترسل الآن عبر شرق أوروبا سوف تترك أثراً كبيراً على توجهات الدول المحيطة بروسيا. هذا بطبيعة الحال سيؤثر في دول مثل ليتوانيا وأستونيا وعشرات من الدول التي تمثل أوروبا الشرقية. هذه الدول جربت الدب الروسي محتلاً في زمن الاتحاد السوفياتي، وهي الآن ستجرب العلاقة مع روسيا الصاعدة التي تقبل باستقلال أوروبا الشرقية عنها، ولكن لا تقبل باستفراد هذه الدول بسياسة تجعلها أقرب إلى «الناتو» وللولايات المتحدة. هذه ليست عودة إلى الحرب الباردة، بل هي تأكيد لسير العالم باتجاه واقعية جديدة وتوازنات دولية جديدة. كل دولة في هذا التوازن تحمي مصالحها وتبحث عن حماية أمنها وحدودها وفرض تصوراتها حسب قوتها وحجمها الشامل.
ولكن الأهم من جهة أخرى هو الموقف الأميركي الوسطي في التعامل مع هجوم روسي ضد دولة حليفة(جورجيا). فالتصريحات الأميركية ظلت عامة. إن سبب الموقف الأميركي الهادئ يعود إلى معرفة الولايات المتحدة بمدى حاجتها إلى روسيا في افغانستان، وفي إيران، وفي القرارات الدولية التي تهم الولايات المتحدة. لهذا فإن الولايات المتحدة وجدت أنها غير قادرة على التضحية بعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا من أجل حليفتها الديموقراطية الليبرالية جورجيا. هكذا نجحت روسيا في تغيير الواقع السياسي الإقليمي، بينما تأكدت الفرضية التي تقول بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتجاهل الدور الروسي في شرق أوروبا وآسيا.
إن الحرب التي وقعت تعود وتؤكد بأن الصين بإمكانها أن تفعل ما قامت به روسيا تجاه جيرانها في حال شعرت بالتهديد، وأن إيران بإمكانها أن تسعى إلى مزيد من توسعة مفهومها لأمن الخليج ومصالحها في منطقة الخليج والعراق ولبنان، وأنه بإمكان سورية أن تركز على حماية مصالحها في لبنان، وأنه بإمكان الهند أن تقوم بما تراه مناسباً لحماية مصالحها الإقليمية وهكذا. سنجد في هذا عودة إلى سياسة الجغرافيا وسياسة الموازين وسعي كل طرف حسب قوته لتأكيد موقعه باستخدام القوة العسكرية المتوافرة. بمعنى آخر، سوف تنسحب روسيا من جورجيا، ولكنها حسمت الموقف في أوسيتيا الجنوبية وحسمت الموقف تجاه دورها في جورجيا، وقد يساهم هذا الوضع الجديد في تحركات جديدة لروسيا في منطقة البلقان.
لقد أخطأ الرئيس الجورجي عندما اتخذ قرار الهجوم في البداية لقمع المنشقين عن جورجيا في إقليم أوسيتيا من دون أن يعلم بنتائج ذلك على السياسة الروسية ونواياها تجاه بلاده، فقد أدى هذا الوضع الذي ساهمت روسيا في استدراج جورجيا إليه في إعطاء المبرر لروسيا للقيام باجتياحها وتحقيق أهداف رئيسية في شرق أوروبا. السؤال الآن: هل تتردد جورجيا في الانضمام إلى «الناتو» بعد هذه المواجهة، أم يتعزز سعي أوروبا والولايات المتحدة إلى تأكيد ان توسعة «الناتو» في بقية أوروبا الشرقية لا يخضع للفيتو الروسي؟ أسئلة كثيرة تثيرها أحداث الحرب الجورجية الروسية التي تعكس هجوماً روسياً مضاداً لاستعادة بعض مواقع النفوذ التي خسرتها مع نهاية الحرب الباردة.