د. شفيق ناظم الغبرا

التجربة التركية ونجاح حزب العدالة

إن نجاح حزب «العدالة والتنمية» التركي في البقاء في مواقعه السياسية يمثل حدثاً على قدر كبير من الأهمية لمنطقة الشرق الأوسط. بل لو قامت المحكمة التركية بالتصويت ضد الحزب ووجوده في الحكومة ورئاسة الدولة لكانت تركيا قد دخلت في أزمة سياسية كبيرة. إن ما وقع من تهديد بحل حزب فاز في الانتخابات يؤكد أن تركيا بحاجة إلى مزيد من الإصلاح السياسي لكي لا يتكرر هذا الأمر، والذي في جوهره يعكس ضعفاً في الديموقراطية التركية التي صاغ دستورها نظام عسكري. لقد تفادت تركيا بالتصويت الأخير في المحكمة العليا، وبفارق صوت واحد، أزمة حقيقية كان بإمكانها لو وقعت أن ترسل رسالة سلبية للقوى الإسلامية كلها في العالم الإسلامي عن عدم شرعية الطريق الانتخابي في العمل السياسي، كما حصل في الجزائر في أوائل التسعينات. ما وقع في تركيا أكد أن الطريق الشرعي وصناديق الاقتراع هي الطريق لكل حزب إسلامي يسعى إلى لعب دور في قيادة بلاده بما فيها من تشكيل حكومة أو الوصول إلى البرلمان.
إن التجربة التركية تؤكد في الوقت نفسه أن وصول الإسلاميين لقيادة الدولة وتشكيل حكومة لن يكون ممكناً بلا مساومات جدية في تعاملهم مع التعددية، والحريات، والرأي الآخر، والتنوع بين الناس، وأن سعيهم إلى إلغاء التعددية والحريات يخلق أزمات ويؤدي إلى تراجعات أكبر في المجتمع والدولة. بمعنى آخر هناك حاجة، كما فعل «العدالة والتنمية»، إلى إعادة تعريف دور الأحزاب الإسلامية في العمل السياسي. فـ «العدالة والتنمية» حزب سياسي أولاً، وهو ليس حزباً دينياً، كما هو حال الكثير من الأحزاب السياسية الإسلامية العربية التي تخلط بين الدين والسياسة. وفي هذا هناك فارق. فالحزب الذي يمارس السياسة بصفته حزباً يستند إلى قيم إسلامية أو جذور إسلامية أو مبادئ إسلامية يختلف عن الحزب الذي يقول إنه حزب ديني إسلامي يمثل الإسلام والشريعة، إضافة إلى تمثيله للسياسة ودوره السياسي. وبينما الحزب الذي يستند إلى المبادئ الإسلامية بإمكانه أن يتجاوز عقدة تطبيق الشريعة الإسلامية بكل ما تثيره من قضايا وإشكالات في التفسير والتطبيق، إلا أن الحزب الذي ينطلق من أنه حزب ديني وسياسي في الوقت نفسه مضطر للعيش مع تناقض كبير بين السياسة والدين وبين الممارسة السياسية والدينية، لهذا عندما يحاول الجمع وتطبيق الإثنين سنجده في النهاية سيخسر الكثير من المكاسب الأولية التي حققها ويصطدم مع قوى داخلية وأخرى خارجية على صعد عدة.
إن مشكلة غالبية الأحزاب السياسية الإسلامية العربية (باستثناء حزب «الوسط» المصري، وحزب «الأمة» الكويتي) أنها تعيش تناقضاً بدرجات متفاوتة بين صفتها كأحزاب سياسية تتطلب التنازل والتراجع والمناورة والتحالف مع قوى تختلف معها، وبين صفتها كأحزاب دينية تخلص لدعوتها ولمبادئ تطبيق الشريعة والفصل وعدم الفصل ومنع هذا والسماح بذاك وتحريم هذا وتجريم ذاك. إن حزب «العدالة والتنمية» تجاوز هذه المعضلة التي تعاني منها الأحزاب العربية الإسلامية، وذلك لأنه فصل نفسه عن الدور الديني، وترك الحلال والحرام لرجال الدين، بينما تخصص الحزب في السياسة والبرامج السياسية والحقوق والتنمية، منطلقاً من القيم الإسلامية التي يمثلها وتشكل دافعه الرئيسي. لهذا نجد العدالة والتنمية يمتلك مرونة أكبر في العمل السياسي من الأحزاب الإسلامية العربية، وهذا يعطيه المجال للتركيز بكفاءة على الاقتصاد والتنمية، كما نجده قادراً على ضم فتيات غير محجبات في صفوفه والتعامل مع العلمانيين والليبراليين بانفتاح، كما أنه غير مضطر لتبني فرض قيم محددة على المجتمع كله أو منع الاختلاط أو غيره من القضايا الخلافية الكبرى. إن الحزب الإسلامي الذي يفصل بين السياسة من جهة وبين الدين بصفته ديناً وشعائر وممارسات وشريعة لا يخالف الإسلام لأنه ترك مجال الدعوة والشريعة وركز على مجال السياسة والنجاح في تحقيق التنمية.
من نتائج قرار المحكمة التركية أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سوف يقوم بإعادة تشكيل حكومته بما يسمح بالتوازن بين الوزراء ذوي الخلفية الإسلامية والوزراء ذوي الخلفية غير الإسلامية. كما أن الحزب سيعطي دفعة أكبر لجوهر الإسلام والتركيز على التنمية وتقوية تركيا بهدف الدخول في الوحدة الأوروبية. إن تجربة تركيا تستحق المتابعة وتمثل نموذجاً للدور المهم الذي بإمكان الكثير من الأحزاب الإسلامية العربية أن تلعبه لو استطاعت أن تتعامل مع عقدة علاقة الدين الإسلامي، بصفته ديناً يتطلب دعوة ولديه قوانين وشرائع، والسياسة بصفتها مدرسة للتحالف والأخد والعطاء والتغيير. إن ممارسة الدورين في الوقت نفسه هما مقتل الحركة الإسلامية العربية الحديثة، أما الفصل بين الدورين فسوف يساهم في تطوير الحركات الإسلامية العربية وتطوير المجتمعات التي تتفاعل معها.

آخر مقالات الكاتب:

عن الكاتب

د. شفيق ناظم الغبرا

أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
twitter: @shafeeqghabra

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *