أحسنت قطر بسعيها الفعال في إنتاج اتفاق لبناني يقي لبنان الكثير من التداعيات الإقليمية. وأحسنت قطر في سعيها إلى إيقاف آفاق حرب أهلية لبنانية لا يحصد لبنان منها إلا مزيداً من الموت. الجهد القطري جاء في ومكانه ووقته، وقد نتج عنه إعادة بعض من الروح للجامعة العربية، وتأكيد أن دول الخليج العربي بإمكانها أن تحدث فرقاً نوعياً وإيجابياً في الأوضاع الإقليمية المحيطة. إن الاتفاق يعكس من جهة تمتع قطر بالكثير من العلاقات الإيجابية مع فرقاء متناقضين: إيران وسورية، إضافة إلى فريقي المعارضة والأكثرية في لبنان، وإضافة إلى دول الخليج والمملكة العربية السعودية. ولكن الاتفاق عكس في الوقت نفسه حرص الفرقاء في الأقلية والغالبية على تجاوز ما وقع أخيراً، إضافة إلى ميزان القوى بين «حزب الله» وأنصاره من جهة وبين تيار الأكثرية من جهة أخرى. إن ما وقع من اتفاق يعكس توافر أجواء إقليمية منها المفاوضات السورية الإسرائيلية، وأجواء لبنانية تريد الاتفاق، وأجواء عربية تريد أن ينتقل لبنان من واقعه التصادمي.
إن «حزب الله» حزب لبناني بحاجة إلى لبنان كله اقتصادياً واجتماعياً ومعنوياً، لكي يبقى ويتطور. وفي حال تخلي سورية عن الحزب في ظل تسوية سورية – إسرائيلية مفاجئة في شأن الجولان سيكون الحزب بحاجة أكثر من أي وقت مضى للتحول إلى حزب سياسي، عوضاً عن وضعه الراهن كحزب مسلح. كما أن ما وقع من هجمات في بيروت والجبل قد أعطت قوة سياسية للأكثرية وأضعفت «حزب الله» بين أنصار له في الشارع اللبناني السني والدرزي والمسيحي. ولكن في الوقت نفسه تعاظم موقع ودور «حزب الله» في الشارع الشيعي، وذلك بصفته حزباً يمثل أكبر طائفة في لبنان ويمثل في الوقت نفسه طائفة تشعر بالكثير من الاستثناء السياسي والاقتصادي وحالاً من الحرمان والتمييز النسبي. هذا كله يجعل «حزب الله» والنائب العماد ميشال عون وغيره من أنصار المعارضة يجدون في الاتفاق مخرجاً. لقد حققوا مكاسب وكان هناك مخاسر وبالإمكان الانطلاق لوضع جديد. في الوقت نفسه يؤمن الاتفاق للمعارضة بعض أهم مطالبها تجاه المشاركة في الحكومة والقرارات بالإجماع. وهذا بحد ذاته ليس سلبياً إن كان يؤمن للبنان حماية من العاصفة إلى أن تأتي الانتخابات اللبنانية المقبلة خلال عام، والتي ستفرز بطبيعة الحال غالبية جديدة وتحولات سياسية.
من جهة أخرى، إن الغالبية تحقق من خلال هذا الاتفاق هدنة لها وهدنة لاقتصاد لبنان ولوسط بيروت، وضماناً من «حزب الله» بعدم استخدام السلاح ثانية. هكذا تتغير الأوضاع نحو الأفضل بانتخاب رئيس توافقي للبنان وبانتظار حلول أو تطورات إقليمية. وستأخذ الغالبية قوة من خلال العودة بالأوضاع إلى مرحلة ما قبل الاعتصام. إن عودة لبنان إلى طريق التنمية والدولة يمثل تحولاً مهماً أسس له الاتفاق، ويجب أن يكون المشروع الأول للبنان. لهذا ما جرى جعل مزيدا من اللبنانيين أكثر تشبثاً ببناء الدولة وبناء المدينة ومنع استخدام سلاح «حزب الله» مرة ثانية في لبنان. لم يقع انكفاء لقوى الغالبية، فالنائب وليد جنبلاط أكثر قوة وكذلك النائب سعد الحريري نسبة إلى السابق، لأنهما بقيا في بيروت ولم ينسحبا أمام ما وقع من اقتحامات لمناطق درزية وسنية، كما أنهما أخذا الكثير من التعاطف أمام الاستخدام المفرط للقوة من قبل «حزب الله».
وفي الاتفاق تناقضان رئيسان سوف يتعايشان معاً في المرحلة المقبلة. الأول أن لبنان دخل منذ عام 2005 في حرب وصراع ذاتي وداخلي طويل. هذا الصراع دمر الكثير من السلطة والدولة والحكومة والأوضاع الاقتصادية والسياسية. ولكن الاتفاق أصبح بحد ذاته مجرد بداية لعودة لبنان إلى مشروع الدولة ومشروع البناء. لكن الاتفاق هو الآخر سيكون هشاً. فهل انتهت الظروف التي أدت إلى الاغتيالات في لبنان؟ وهل انتهت الظروف التي تؤدي إلى التدخل العربي والإقليمي والدولي؟ وهل انتهت الظروف لتصادم إسرائيلي مع «حزب الله»؟ وهل انتهت الحال التي أدت إلى الفوضى السابقة؟ إن الحال اللبنانية تقتضي التفاؤل والتشاؤم في الوقت نفسه، فما وقع في قطر بداية طريق طويل سيتعرض إلى تحديات ومشكلات تقودها الأطراف المتضررة من الاتفاق والسلام في لبنان. ومهما كانت الآراء تجاه الاتفاق: هنيئاً للبنان على هذا الاتفاق ولقطر على دورها. فما وقع يؤكد كم من التسويات بإمكانها أن تحقن الدماء وتأخذ بلادنا، بعيداً عن الدمار الذي نصنعه بتسرعنا.