أن يتقاتل اللبنانيون هو تأكيد لحال التآكل التي يعيشها لبنان ومعه العالم العربي الذي يزداد انغماساً بصراعات أهلية، بينما تحتفل إسرائيل بذكراها الستين، وتعود الأمور إلى نقطة الصفر. فما وقع في لبنان يعكس القضية الأكبر التي تسيطر على تفكير القياديين في «حزب الله» وسورية وإيران: آفاق حرب جديدة في المنطقة بين إسرائيل و«حزب الله» وسورية وآفاق مواجهة أميركية إيرانية. وتعيش القيادات في هذه البلدان مع توقيت هذه الحرب في هذا الصيف. مقتل عماد مغنية، الذي تشير حادثة الاغتيال إلى دور إسرائيلي في اغتياله، ربما كان البداية الهادئة لهذه الحرب الجديدة. فمغنية كان مسؤولاً عن تحضير «حزب الله» في الجنوب وفي البقاع وفي لبنان للحرب المقبلة مع إسرائيل. هل يمكن أن نقول إن الحرب قد بدأت بتحرك من «حزب الله» على أزمة الكابلات وشبكة الاتصالات التي يقوم «حزب الله» ببنائها بمعزل عن الدولة؟ ولكن «حزب الله» كان يبني ما يبني في إطار الاستعداد للحرب المتوقعة هذا الصيف(بمعزل عن الدولة) وبمعزل أن أي قرار عربي، فاعتبر أن ما تقوم به الدولة إضعاف له في معركة يستعد لها؟ بطبيعة الحال سيقول الكثيرون من اللبنانيين: وما دخلنا في حرب إقليمية؟ هذا التساؤل في مكانه، ولكن من جهة أخرى، ان ضعف لبنان وانقسام مجتمعه بهذه الحدة واكتشاف كل من سورية وإيران لحلفاء في لبنان في المواجهة مع إسرائيل ومع القوى اللبنانية السيادية يجعل لبنان متورطاً بما يحصل.
من جهة أخرى، تؤكد التقديرات والمعلومات أن «حزب الله» يخوض معركة وجود: وجود سلاحه، وجود سلطته خارج سلطة الدولة، وجود دوره في لبنان وخارج لبنان. ولكن بناء لبنان حقيقي ودولة راسخة تتطلب احتكار السلاح من قبل الدولة، وتتطلب دولة القانون ودولة بلا ميليشيات. فبناء لبنان لن يكون ممكناً بعقلية الحرب الأهلية أو ببناء دولة ضمن الدولة. لكن «حزب الله» لن يقبل في هذا إلا إذا ضمن سيطرة رئيسية على قطاع كبير من الدولة اللبنانية، فهو لن يقبل بتسليم السلاح أو القبول بالحل الوسط إلا إذا ضمن أن الدولة مرتبطة به، وبالتالي بسورية وبإيران، كما وعليه أن يضمن عزل هذا كله عن الحرب الأميركية ضد الإرهاب، والتي توجه الاتهامات لـ «حزب الله» خصوصاً في قضايا تتعلق باستهداف أميركيين. لهذا في هذه المرحلة هناك توافق في المصالح بين إيران و«حزب الله» وسورية، وهناك تناقض واسع بين «حزب الله» والأطراف اللبنانية الأخرى التي تسعى إلى بناء لبنان مسالم محايد مستقل ويركز على السياحة والثقافة. في الوقت نفسه الولايات المتحدة تسعى إلى تقوية الدولة في لبنان، وهناك حتى الآن متابعة كبيرة تجاه قضية المحكمة الخاصة باغتيال رفيق الحريري، وهناك في الوقت نفسه آفاق مواجهة على الملف النووي مع إيران. هكذا تتناقض الأوضاع: فـ «حزب الله» حزب أيديولوجي مازال يعيش مرحلة المقاومة حتى بعد تحرير جنوب لبنان، مازال يريد أن يقاتل، ويعتبر حمله للسلاح طريقته في حماية سلطته وقوته وامتدادات الدول التي تؤيده. هكذا ينظر الحزب إلى السلطة والدولة على أنها مثل إسرائيل. في هذا أرضية لمواجهات لا نهاية لها.
ما نقرأه في الحال اللبنانية الطريق المسدود. وعلى الغالب سوف يبقى هذا الطريق المسدود بين الأطراف إلى أن تقع الحرب الأوسع. وتؤكد بعض المعلومات والتسريبات أن إسرائيل حضرت إلى هذه الحرب الأوسع، انطلاقاً من تجربتها في صيف 2006، وسيكون هدف إسرائيل اجتياح لبنان إضافة إلى احتمال أن تتوسع الحرب باتجاه البقاع وسورية. ولكن «حزب الله» هو الآخر حضّر نفسه جيداً، فما وقع من خلاف مع الدولة منذ أيام على شبكة الاتصالات كان جزءاً من هذا التحضير، «حزب الله» حفر أنفاقاً في البقاع، وقوّى وضعه جيداً خلف منطقة الجنوب، وذلك لكي يورط إسرائيل في مناطق محتلة كبيرة. إذاً التحضير تم في المنطقة الواقعة جنوب الليطاني في صور وجنوبها وشمال الليطاني في صيدا وباتجاه بيروت وباتجاه البقاع. أما سورية فهناك مدرسة في القيادة تؤمن بحتمية الحرب وتستعد لها، وهناك مدرسة تؤمن بضرورة أن تبدأ سورية الحرب وألا تنتظر الضربة الإسرائيلية. وفي حالة الحرب فإن العراق سيشهد تطورات خطيرة لأن إيران وسورية سيرفعان من سخونة المواجهة في العراق. وهذا قد يضع الولايات المتحدة في موقف أكثر صعوبة، ما قد يدفعها إلى مزيد من التورط العسكري.
ولكن في ظل هذا التحليل كله للوضع العربي، فإنه من الواضح أن لبنان لم يتعلم من تجربة الحرب الماضية وآفاق أن تتكرر مرة ثانية. مرة جديدة يتقاتل لبنان مع نفسه، وينقسم سكانه بين يمين ويسار وبين موالٍ ومعارض لصالح توازنات إقليمية هم في غنى عن الدخول معها أو ضدها. الواقع يقول إن لبنان يجب أن يكون مستقلاً، وأن يكون سيداً على ذاته، وأن يكون متساوياً في معاملته لكل شعبه، وأن يكون وطنياً، وأن يكون مسالماً وبعيداً عن حروب المنطقة ونزاعاتها، كما هي الحال في دول عربية صغيرة أخرى تعيش في ظل الضغوط نفسها. المنطق يقول إن لبنان لا يتحمل أن يكون مركز الصراع مع إسرائيل أو مركز الصراع مع جيرانه. ألا يتذكر اللبنانيون ما وقع على مدى 16 عاماً من الحرب؟ ألا يتذكر كل لبناني المخطوفين بعشرات الآلاف، والقتلى بمئات الآلاف، والجرحى أضعاف ذلك، والدمار في الممتلكات في البلاد كلها؟ لقد دخل لبنان في أزمة كبيرة ستشرك لاعبين محليين وإقليميين.