هل انتقل إلى رحمة الله الحراك الشبابي المعارض للسلطة، أم إنه أخذ قيلولة، واستراحة محارب، وسينهض بعد فترة؟! لا هذه ولا تلك… فهمم الشباب لم تفتر، ولا أعتقد أنهم سلموا أمرهم للقدر والمكتوب، وهو قدر السلطة ومكتوبها، الذي تفرضه بعصيها وزنازينها. بالتأكيد الشباب الواعون يشعرون بالإحباط، إحباط قد يكون سببه إحساسهم الدفين بأن هناك من تخلى عنهم من بعض الذين يقودون العمل السياسي ورموزه. فعدد من الشباب زج بهم في سجون مظلمة بدون ذنب غير أنهم عبروا عن فهمهم ورؤاهم لما حدث في مرسوم حل المجلس "منتخب" على علاته الكثيرة، وتنصيب مجلس آخر وفق قرار أحادي تفردت به الأسرة الحاكمة، ولم تكن ردود الفعل بمستوى مصادرة حرياتهم وقهر تحركاتهم.
اندفع هؤلاء الشباب في أحلامهم، وفي "تويتراتهم"، وفي الخروج إلى الشارع بحماس ملتهب، ورفعوا عالياً شعار "لا" يا سلطة، إلا أنهم وجدوا أنفسهم في ما بعد بلا معين، أصابتهم خيبة أمل في وعي من يحيط بهم، لم يصطف معهم الكثيرون من شعب "الحمد لله مو ناقصنا شي"، وما دام هؤلاء "الكثيرون" يرفلون بالنعم وسكينة رغد العيش فما الحاجة إلى ممارسة الرفض، ودفع ثمن هم في غنى عنه؟
أيضاً، لم يجد الشباب من ينظم ويؤطر رؤية مستقبلية لحراكهم، ويضع منهجاً للعمل السياسي يتجاوز القبيلة، والطائفة، والمعتقدات الخاصة، ويتجاوز الذات الأنانية وطموحات مريضة وينشغل بالغد، فغير الناشطين من التيار التقدمي، لم يقدم أحد مثل هذا التصور العريض للعمل السياسي… فلم تطرح أسئلة استفهامية عما نريد من تحركات الرفض والإملاء السلطوي! هل دستورنا يعد كافياً للعمل السياسي أم تجاوزه الزمن ودهسته السلطة الحاكمة والمجالس النيابية المتعاقبة بقوانين وممارسات قمعية؟… كيف نوفق بين المادتين الرابعة والسادسة من غير الانتشاء بأوهام التلفيق حين نسميها توفيقاً؟! كيف نفهم مبدأ الفصل بين السلطات على أرض الواقع المعيش وليس بالهذيان النظري المعتاد؟! هل تختزل قضية الحراك بكلام عام مكرر عن الفساد أم يجب أن تصعد فوق ذلك لخلق ديمقراطية حقيقية تحاسب وتحارب الفساد السياسي، وكل صور وأشكال الفساد من ابتلاع ملايين الأجيال، إلى رشوة موظف صغير، أو التوسط لتجديد رخصة قيادة أو دفتر سيارة؟… وكيف يمكن تحقيق هذه الديمقراطية والإدارة المحاسبية من غير أحزاب سياسية لها برامج واضحة لا ترتبط بالاستقطابات القبلية أو الطائفية؟
كيف يمكن أن نخطو لفضاء الحريات السياسية والفردية والعدالة الاجتماعية، بينما الدولة محاصرة إقليمياً بأنظمة لا تتقبل أياً من ذلك، وتكاد تفرض منهجها على الدولة؟
أسئلة يجب أن تُسأل حتى نخرج من عنق زجاجة الملل السياسي الخانق.
التصنيف: حسن العيسى
مكابرة ضد الزمن
استيقظ روبرت لويس ستيفنسون من نومه بشعور غامر من النشاط والطاقة المتفجرة، على غير حالته العادية، وهو الذي كان يعاني دائما الخمول والإعياء الملازمين لجسده الضعيف، وأمسك ستيفنسون بالقلم والأوراق، وأخذ يكتب عشرات ومئات الصفحات دون تعب أو كلل، وحين انتهى قدّم مسودة رواية "الحالة الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد" لزوجته فامتعضت منها، عندها ألقى الكاتب بالمسودة في نار المدفأة، وبدأ يعيد كتابة الرواية من جديد وانتهى من رائعته في ثلاثة أيام! ما سر تلك القوة الملهمة التي هبطت على الروائي ستيفنسون بعد حلم ربما كان كابوساً ترجمه الكاتب إلى عمل فني أصبح منذ عام 1886 نموذجاً ومثالاً حياً عند علماء النفس في سبر أغوار مرض ازدواج الشخصية النفسي!
في كتاب "تحولات منتصف العمر في الأدب والأفلام" (لم يترجم) يستعرض الباحث ستيفن ووكر حالات التغيرات التي تحدث للبشر عند منتصف العمر بمنظار العالمين النفسيين كارل يونغ وإريك أريكسون، فكارل يونغ تلميذ فرويد بداية، ثم خصمه في ما بعد، يرى أن الإنسان في مرحلة منتصف العمر يمر عادة بلحظات توهج روحي، تلهمه وتغير من شخصيته (هذا ما حدث مع كاتب د. جيكل ومستر هايد)، في تلك المرحلة يبدأ الفرد يرى الأمور بمنظار روحي متسام للبشرية والنفس الإنسانية، فهو قد تخلص من نزق مرحلة الشباب والتمحور حول الذات التي تصاحبها عادة، وقد يشرع ذلك الشاب وهو في طريقه إلى الشيخوخة بعشق جديد وولادة جديدة تهز في وجدانه روح الشباب وجنوحها وعنفوانها الإجرامي، أوليس جنون وفوران شخصية "مستر هايد" هو الوجه الآخر المخفي لركود وتؤدة الدكتور جيكل؟! وألم يكن الروائي ستيفنسون بكتابة الرواية بعد حلمه كان يترجم ذاته وروحه بعد أن بلغ منتصف العمر؟!
ويمضي "ووكر" في عرض الأعمال الأدبية والفنية الكبرى في التاريخ، وكيف كان أبطالها يولدون من جديد في منتصف أعمارهم "بتجديد" يقرع أجراس مرحلة الشيخوخة والأفول… هنا يذكرنا الباحث بعبارة يونج الشهيرة بأننا لا نستطيع أن نحيا فترة ما بعد الظهيرة بعقل فترة الصباح.
في مسرح سوفوكليس، نرى أوديب الشاب المغامر الذي قتل الوحش سفينكس عند أبواب طيبة، يدخل منتصراً ليقتل الملك ويتزوج امرأته وينجب منها، ليعرف في ما بعد أنه قتل أباه وأنه تزوج أمه وخلف منها دون أن يدري… فيفقأ عينيه ويهيم كالمجنون في المدينة، أوديب الشاب وصل إلى مرحلة منتصف العمر فيداهمه الأسى والحزن على صنيعة قدره البائس وينهش من روحه ذلك الضمير البائس (حكمة الشيخوخة) وتلك مرحلة عمر تعدت فورة الشباب كي تدق أجراس النهاية.
الأمر لا يختلف، في "أوديسة" هوميروس وحكايات بطلها "أوديسوس"… فهناك غيوم منتصف العمر حين تغطي ألوانها الداكنة شمس الشباب ويلج اليأس الحكيم في عقل الإنسان.
أما العالم النفسي الذي قسم الحياة وأطوارها المختلفة إريك اريكسون (عالم نفس من غير شهادة طبية) فهو يرى أنه ليس بالضرورة أن تتوهج الروح لفترات في مرحلة منتصف العمر وبداية الشيخوخة، فهناك من البشر من يرفض التأقلم مع واقع الحال، ويرفض مكابرة سنة التغيير والتبديل، عند هؤلاء تنطوي الروح على ذاتها، ويصيب التحجر والجمود أصحابها، وكأنني أقرأ هنا رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غري" فالصورة تشيخ وتهرم، أما صاحبها دوريان فيظل على شبابه وجماله، حتى اللحظات الأخيرة من عمره يدرك الحقيقة المقلوبة، فروحه هي التي كانت تشيخ وتذوي، بينما الصورة كجماد هي على حالها كانعكاس لجمال الشباب في زمن مضى.
هل كان دوريان وحيدا في ذلك القرن (التاسع عشر) أم مازالت نماذجه تحكم عالمنا العربي وتضج شوارعنا ومؤسساتنا بصور دوريان غري العربي الذي يرفض التغيير والتبديل وسنن الكون؟… لنفكر قليلاً.
ماذا تقولون اليوم؟
قولوا لسلطتنا الحاكمة بأمر الله إن بضاعتكم ردت إليكم، ولن أكملها بمثل "زرع زرعتيه….". بضاعة السلطة وزرعها هما "نواب الصوت الواحد" الذين تفتقت قرائحهم وضمائرهم على المال العام والقومية العربية… وإلخ إلخ من ثرثرات استجواباتهم لوليّة أمرهم سلطة الإصلاح والتنمية والحريات العامة والخاصة، وكل ما صفقت له من قبل، وروجت من أجله للصوت الواحد هي وأتباعها من كُتاب وأشباه مثقفين يأكلون بفقههم الفستق واللوزينج، كما تنبأ أبو حنيفة النعمان لمستقبل صاحبه الفقيه أبي يوسف.
نائب الضمير "سعدون حماد" الذي تفردت جريدة واحدة بالترويج له، والتطبيل لاستجوابه لوزير النفط -والله العالم بالأسرار– يتهم الوزير بعدد من التهم المضحكة، منها أن الوزير هاني حسين ترك عمله في الوزارة، وأخذ يعمل "بار تندر" في محطات وقود "كيوايت" خارج حدود الدولة وخارج سلطان قوانينها الجزائية، وأن شركات تابعة لمؤسسة البترول تتعامل مع سيدة إسرائيلية لعمل شراكة في رومانيا… وهنا يخلع النائب سعدون حماد ثوب التقوى والورع الدينيين ليضع رداء القومية العربية ويرفع سلاح المقاطعة ضد العدو الصهيوني!
مثال سعدون حماد مجرد عينة بسيطة من مختبرات استجوابات تصفية الحسابات الداخلية والاستحقاقات المطلوبة لمراكز قوى متنفذة بالدولة، أما بقية استجوابات زملاء سعدون فهي من تلك الشاكلة وعلى هذه "الطقة"… لا يهمني تلك الاستجوابات ولا الجلباب الذي فصلته السلطة من أجلها في تركيبة مجلس "جماعتنا وربعنا" فظهر أنه على غير مقاسها، بل على مقاس مصالحه ومصالح متنفذين في بطن السلطة وقلبها… يهمني أن أعرف ردود فعل جماهير الفقيه أبي يوسف التي رقصت وانتشت بمرسوم الصوت الواحد، وأخذت تهلل لمستقبل الحريات المدنية وتطرز باللون الوردي عالم الأحلام للتنمية والسعادة والبهجة تحت ظلال الفكر المستنير لسلطة الحكم… ماذا تقولون الآن؟… وأنتم مع مجلسكم في أول الطريق… انتظروا وأبشروا بالخير القادم لسويسرا الخليج.
درب السنع وينه؟!
أجزم بأن البشر الذين خرجوا في مواكب ممتدة من السيارات ورقصوا في الشوارع، ورفعوا الأعلام المزركشة وعلقوا "لمبات الأعراس" على المنازل والعربات، لم يكونوا يبتهجون بالأعياد الوطنية بقدر ما كانوا يعبرون عفوياً عن حالة احتقان فرح مخنوق في صدورهم، ووجدوا في مناسبة العيد فرصة يتيمة للتنفيس عن النفس كي يخرج قليلاً بخار الملل والروتين القاتل المهيمن على أرواحهم.
هل كانت هناك احتفالات حقيقية بالأعياد الوطنية، وهل شعرنا في الواقع بأن الدولة تحتفل بعيدها الوطني؟ أنكر ذلك، فغير تلك الإجازة الطويلة، وهي إجازة من إجازة، لم يكن هناك أي دليل على مظهر احتفالات رسمية للدولة، فالحفلات السنوية التي كانت تقيمها وزارة التربية في السنوات الخوالي (أيام كنا وكان) أصبحت من المحرمات، فظهور أطفال من الجنسين يرقصون "الهولو على ظهر السفينة" حرام كما أفتى مشايخ الدولة غير الرسميين، وتبعهم وزايد عليهم، بطبيعة الحال، مشايخ الدولة وشيوخها الرسميون، فلا أحد أحسن من أحد، وكأن فقهاء السلطان يقولون للفقهاء الشعبيين إنهم لا يقلون عنهم علماً وورعاً ومحافظة، فالمحافظة على العفة تعني المحافظة على السلطة، فغاب شادي الخليج وسناء الخراز وغنام الديكان وفرقة التلفزيون، كما غاب عن البلد المسرح والأدب والثقافة والكتاب (غير المراقب من حسبة التخلف) من قبل.
أي عيد وأي بهرجة زائفة حاولت السلطة ترويجها للناس؟! سيارات وسيارات ومواكب سيارات بلا بداية ولا نهاية، وأضواء ملونة وأعلام معلقة على المؤسسات الرسمية وبيوت الناس، كلها تخبرنا عن وضع "فلاشي" زائف يتجرعه البشر! غير الخواء لا يوجد شيء.
التسوق في المولات الكبيرة لممارسة إدمان الاستهلاك المدمر، والتسكع في "كرودورات" تلك المولات، وابتلاع سندويتشات "الفاست فود" هي وسائل لقتل الوقت، وتمضية أوقات الفراغ المرعب، بينما الحقيقة هي الوقت، هي الزمن الذي يقتل ويطلي الشعر الأسود الفاحم بلون الشيب الكئيب، وينهش ببطء خلايا الشباب وحيويتها، وتتغضن الوجوه وتذوي الذاكرة، ولا يبقى لدينا غير الذكرى الجميلة عن سنوات الستينيات والسبعينيات، أيام كنا ندل جيداً "درب السنع"… راحت تلك الأيام من غير رجعة، وراحت معها الإرادة المبدعة، فلنسحب الغطاء ولنواصل شرب كؤوس الأوهام… فلا عزاء لشباب اليوم.
مثقف السلطان ومثقف الغلبان
عندما أسمع اسم جهاد الخازن (الكاتب اليومي بجريدة الحياة) يقفز إلى ذهني تلقائياً ومن دون تفكير مسبق اسم الراحل الكبير إدوارد سعيد، تلقائية الارتباط "الشرطي" (كما في تجربة العالم بافلوف والكلب الذي يسيل لعابه كلما دق الجرس) أساسها، وجوهر كتابات الراحل إدوارد سعيد عن مفهوم المثقف الحقيقي، الذي يضع دائماً مسافة بينه وبين السلطة، هو ذلك المثقف "العضوي" ( تعبير غرامشي) الذي يحمل هموم البائسين وقضايا الشعوب ويرفض الظلم، وقد يدفع ثمناً غالياً في حريته وفي مصدر رزقه كالكتابة، بينما "مثقف السلطان" هو مجرد كاتب أجير لدى السلطة، كتاباته لها ثمن، وفكره مجرد سلعة رخيصة تباع وتشترى في أسواق الجهل المظلمة.
مثقف السلطة، له دراية وثقافة، لكنه لا يوظفها من أجل البائسين ومن أجل حريات وحقوق المسحوقين من قبل السلطات الحاكمة، إنما يستغل ثقافة البؤس وسلاسة الكلمة من أجل "تزويق" عرش السلطان، هو يمارس دائماً، وحسب الطلب، عملية تجميل للوجه البشع للاستبداد بمشرط القلم. حين يقوم بذلك، فهو يؤدي دوراً مهماً من أدوار "وعاظ السلاطين" كما كتب عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، حين يباشر هذا الواعظ الأجير واجبه كما يطلب منه السيد المالك شاريا قلمه وفكره بثمن معلوم، يؤدي هذا المثقف الأجير وظيفة وزارة الإعلام التي ابتلينا فيها بعالم النكد العربي، ويقوم مثقف السلطة بمهمة الإعلان والدعاية لهذا النظام أو ذاك، ويغطي فضائح الأنظمة بستار معلومات كاذبة، يروج لها، ويهلل من أجلها، ويضع السم في الدسم، فالكلمات والحكمة المطلوبة لها ثمن، كما أخبرنا بريخت في مسرحية "مؤتمر غاسلي العقول"، وهو بهذا يقوم بأكبر عملية تضليل لوعي الناس، حين يطلو اللون الأسود لشكل النظام بألوان جميلة جذابة مثيرة تحجب الحقيقة عن عيون الجهلاء وأنصاف المثقفين.
العمل الذي يؤديه مثقف السلطة هو تزوير للحقيقة وتدليس في التاريخ، وتاريخنا العربي- الإسلامي يشهد بالمثقفين من النوعين، الرديء وعالي الجودة، كاتب السلطان وكاتب الشعوب، خسرنا إدوارد سعيد وابتلينا بالكثيرين من كتبة السلاطين.
لن أرد على ما كتبه الأستاذ جهاد الخازن بحق المعارضة في الكويت أو البحرين، ولن أصنفه في أي فئة كانت، فهذا أتركه لحكم القارئ الواعي، وأعتقد أن ما كتبه عبدالله النيباري في قبس الأربعاء كافٍ.
عيب عليك يا سيد
رغم أن هذا المجلس لا يستحق أن يوصف بمجلس الأمة، لكن تبقى هناك أصول قانونية برلمانية ودستورية، يجب على نواب الصوت الواحد أن يراعوها حين اعتلوا كراسي النيابة العوراء، أهمها ألا تكون هذه النيابة وسيلة انتقام من آخرين، سواء كانوا موظفين رسميين أو وزراء أو غيرهم، ولهذا المجلس وللمجالس التي سبقته، منذ أن توقفت السلطة الحاكمة بسند من أشياعها، عن تطوير نظامها الديمقراطي منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، تاريخ ينضح بحروب تصفية الحسابات عند ممثلي الأمة ضد الآخرين، أو يكون هذا التاريخ بصورة أو أخرى مجالاً رحباً لخوض المعارك السياسية للمصالح الخاصة بالنيابة عن الغير، سواء كان هذا "الغير" من بيت الحكم غير الراضين عن أبناء عمومتهم، ولهم أحلامهم العريضة للسيادة على البيت الحاكم، أو تنشب تلك المعارك الانتهازية لتحقيق مصالح جماعات متنفذة قريبة من الحكم، لم تهبر (حسب العادة) من خير هذه المناقصة أو تلك الممارسة، وعبر حملة صحافية مغرضة تحرض على استجواب أو تحقيق ما، يقوم نائب، آخر زمن، بدور مخلب القط في تحقيق أهداف أصحاب المصالح الخاصة في حالات كثيرة، أو أن يمارس الثأر لذاته، لأن هذا الوزير أو ذاك الموظف لم يقم بواجبه نحو هذا النائب.
هنا أستبعد الاستجوابات والأسئلة البرلمانية التي قام بها عدد من نواب الأمة في مجالس الأمة، هدفها تحقيق المصلحة العامة، وممارسة الرقابة البرلمانية كما ينبغي أن تكون، لا بدافع الثأر أو تصفية حساب قديم.
النائب سيد القلاف، على سبيل المثال، وجه أسئلة إلى وزير العدل عن "التفتيش القضائي" وفعاليته "… آمنا بالله…! وماذا بعد يا سيد! يعود السيد ممثل الأمة ليسأل الوزير عما إذا تم التفتيش القضائي عن "القاضي إبراهيم العبيد"؟! ما هذا سيد قلاف…؟! "وين قاعد"؟! بمجلس تشريعي أم في براحة "هواش" ومعارك "مصبنة الفريج"؟! أعرف تماماً، وكي لا تتذرع بأن هدفك "المصلحة العامة" بأن "المستشار" إبراهيم العبيد هو رئيس الدائرة الاستئنافية التي حكمت عليك بغرامة مالية، وتعويض مؤقت لمصلحة النائب السابق مبارك الوعلان، في شكوى جزائية تقدم بها الأخير ضدك…! فهل أردت بأسئلتك التفتيش القضائي، كما "زهلقت" السؤال الأول، ثم طعنت، بعد ذلك، في المستشار العبيد لا لأي سبب، غير أنه حكم عليك، وأدى واجبه كقاض بالفصل في خصومة قائمة أمامه، وعليه أن يعمل حكم القانون حسب اجتهاده وقناعته مع بقية أعضاء هيئة المحكمة…؟! فهل أضحت النيابة أداة تصفية حسابات بين النائب مع الذين لا تهضمهم؟ وهل هي وسيلة انتقام منهم؟ وهل هكذا تفهم مبدأ الفصل بين السلطات كما ينص الدستور المنسي منك ومن السلطة التي يتبعها مجلسك…؟! وعوضاً عن أن تعمل وتجتهد، مع بقية زملائك النواب لتقديم مشروع قانون متكامل يحقق حلمنا وحلم السلطة القضائية ويحقق استقلالها الثابت من أي نوع هيمنة أي سلطة أخرى عليها، نجدك، الآن، تقدم مثل السؤال الاتهامي المخجل، انتقاماً من قاض مستشار لم يحكم كما تشتهي…! سؤالك غير دستوري، ويشكل اعتداء فجاً على القضاء، وعلى الوزير أن يفصح بقوة، رافضاً الإجابة عنه بلا تردد… وعيب كبيرة أقولها لك يا سيد.
لو أقدر!
لو أقدر أن أنزع الأصفاد الحديدية التي كبلت قدمي طفلين عند مصعد في قصر العدل لصنعت منها قلادة عبودية تزين رقبة السيدة التي بعثت إلي برسالة إلكترونية تشجب ما كتبته، أمس الأول، عن جلسة محاكمة مسلم البراك، وما صاحبها من انتهاكات لمبدأ علنية الجلسات، وتختم رسالتها بأن الكويت عظيمة فيها حرية وديمقراطية… "ومو ناقصنا شي". صورة الطفلين المصفدين، وكأنهما سفاحان خطيران، تخبرنا عن جمال وروعة الحرية وحقوق الإنسان وحقوق الأطفال في بلد "مو ناقصنا شي والحمد لله".
لو أقدر، ويا ليتني، أملك صوراً كثيرة لراشد العنزي وعبدالحكيم الفضلي وغيرهما، وهم في السجون لمجرد أنهم عبروا عن آرائهم عفوياً عبر "تويتر" أو حرضوا على تظاهرات غير مرخصة، وافترضت جهة الادعاء على وجه اليقين أنهم ارتكبوا جرماً خطيراً بالمساس بسمو الأمير وسلطاته، وكأن أجهزة الأمن والتحقيق شقت قلوبهم وقرأت مقاصدهم مفترضة سوء النية.
ليتني أعلق صور هؤلاء المتهمين على حوائط غرف النوم فوق أسرتهم الدافئة الوثيرة وفي صالونات جلوس المؤلفة قلوبهم من مريدي بعض شيوخ أهل الأريحية النفطية والكرم الطائي، (كرم حاتمي من بيت المال وليس من جيوبهم الخاصة بطبيعة الحال)، لعل فرق المريدين من التبع، يدركون، ولو للحظة واحدة، أن هناك بشراً غيرهم، صودرت حرياتهم ومست كراماتهم أسابيع ممتدة وسنوات طويلة بسبب شبهات قلقة بجرائم الرأي، عل وعسى أن ينبض عرق صغير بوخز الضمير في معاصم لوردات ودوقات نظامنا الحاكم "كامل الأوصاف"، كما يرسمه فنانو البؤس بلوحات المريدين.
لو أقدر، أن أنقل لتبع النظام، الذين بينهم وبين الفكر والثقافة الإنسانية مسافات شاسعة، ليس لها من حدود، ولا لعمقها من قرار، أوضاع إخوانهم وأخواتهم البدون… كيف تحيا تلك الجماعات المنفية من الوجود القانوني والإنساني، وتناست السلطة ما قدمه كثير من هؤلاء البدون أو آباؤهم وجدودهم للدولة عبر الخدمة في الجيش أو الشرطة، والأرواح الرخيصة التي بذلوها من أجل هذا الوطن. واليوم تطوى صفحتهم من الذاكرة الكويتية، وكأنهم غير موجودين، ويعلق مصيرهم على "احتمالات" صدقات أصحاب السيادة في مجلسهم، أي مجلس التابعين وحكومتهم المتبوعة ليوم الدين.
لو أقدر، أن أقرأ على جماهير الموالين بعضاً من النصوص القانونية التي غاب عنها عمداً التشريعات التي تنظم أوضاع الخدم الخصوصين، وتضع الحدود الدنيا لحقوقهم التائهة في إمبراطورية "مو ناقصنا شي".
لو أقدر أن أذكر بارونات الدولة بالقانون الذي يحظر على القضاء النظر في مسائل الجنسية ودور العبادة والإبعاد الإداري، أو القانون الآخر الذي يحظر منح غير المسلم الجنسية الكويتية حين شرع بالتواطؤ بين السلطة التنفيذية وجماعة الفرقة الناجية السياسية في مجلس ٨١، لربما أدرك المريدون أن غياب تلك التشريعات، أو فرض مثل هذا التشريع الأخير، يخرق ويقتل أبسط مبادئ حقوق الإنسان، تلك المبادئ المنسية في ديمقراطية المزاج الواحد ولا تداول للسلطة.
لو أقدر لكتبت الكثير عن مصيبة الدولة التي تحيا وتعشق فلسفة من "صادها عشى عياله"، وما أكثر الذين صادوا الملايين وعاش أولادهم وضمنوا البحبوحة لذريتهم من بعدهم وتناسوا وطنهم متغطرسين متعالين على الآخرين المحرومين… لكني لا أقدر، وليس لي غير أن أذكر، أن مصيبتنا ليست في هذه السلطة، وإنما في مستنقع ثقافة الخواء التي تتكاثر فيها فيروسات "مو ناقصنا شي".
حدث اليوم
كوني محامياً فقد وكلت من النائب السابق مسلم البراك في الجناية المتهم فيها موكلي بالإساءة إلى الذات الأميرية بأنه "طعن علناً وفي مكان عام عن طريق القول في حقوق الأمير وسلطته وعاب في ذاته وتطاول على مسند الإمارة… إلخ".
حضرت قبل أسبوعين الجلسة الأولى بالنسبة إلي، وقد سبقتها عدة جلسات حضرها عن مسلم محامون زملاء، طلبنا من المحكمة في تلك الجلسة "نحن المحامين الذين وكلنا حديثا بالقضية" أجلاً للتحضير للدفاع، وأجابت المحكمة طلبنا بأن قررت تأجيل الجلسة أسبوعين، بينما كنا نتمنى أن تزيد تلك الفترة تحقيقاً لحق الدفاع المقدس وترسيخاً للعدالة، بعد انتهاء الجلسة سمعنا "شيلات" حماسية تشدّ من أزر مسلم، وتعبّر عن مكانة البراك في قلوب هؤلاء، كانت تعبيراً عفوياً بسيطاً مسالماً، لم تتدخل في سير العدالة ولم تشوش على عمل المحكمة، فقد كانت الجلسة مرفوعة (منتهية).
"شيلات" أي إطلاق أناشيد الحماس من أجل مسلم هي مجرد تعبير بسيط مسالم عن رأي أصحابها، كانوا يمارسون حقهم الأصيل في "التنفيس" عن مشاعر سخط وحزن ممزوجة بحماس إنساني لما يعصف بالدولة في أيامنا السوداء هذه.
يبدو أن مثل تلك "الشيلات" الحماسية لم ترق للكثيرين الراضعين من ثدي بركة السلطة الحاكمة، فصوروا الأمر لأصحاب السلطان، بأن ما حدث في قاعة المحكمة بجلسة مسلم البراك في ذلك اليوم هو فوضى، وعدم احترام للسلطة القضائية وإخلال لحكم القانون، مع أنه (حجاب البيت الحاكم) يفترض أنهم آخر من يتكلم عن احترام حكم القانون!
أمس ذهبت إلى قصر العدل في الموعد المحدد، وكان القصر مسيجاً بأعمدة من حديد المانع من دخول الجمهور، ووقف رجال الأمن محيطين بالبوابات، يدققون بهويات الداخلين إلى الدور الرابع الذي تعقد فيه جلسة محاكمة مسلم البراك… لم أشعر بأني في قصر العدل إنما في ثكنة عسكرية مرعبة… انتظرت مع زملائي المحامين طويلاً خارج القاعة حتى يجلس القضاء في القاعة، وحين تم ذلك، بدأ عسكري ينادي على أسماء المحامين ليسمح لهم بالدخول في محاكمة يفترض أن تكون علنية تشرع فيها أبواب القاعة للجمهور، وبغير هذا، أقصد علنية الجلسة، فلا يوجد أي معنى للعدالة ولا لحكم القانون.
حين فتحت القاعة أبوابها، كأن أبواب جهنم قد شرعت لمن أراد الدخول، ومعظم المنتظرين كانوا من المحامين، فقد منعت الشرطة أصحاب الدفاع من الدخول بأمر مَن… لا أدري! وأخذ شرطي ينادي على أسماء المحامين واحداً تلو الآخر بصوت مبحوح اختلط وضاع مع صرخات المحامين المحتجين على غلق أبواب القاعة، ومصادرة حق المتهم في الدفاع بجلسة علنية، كان تزاحم المحامين على الباب الضيق المغلق عن ولوج العدالة، مثيراً للغضب بقدر ما كان مشهداً من مسرحية هزلية لم يكن من الجائز عرضها في ذلك المكان… تركت القاعة، لم أنتظر أن أسمع اسمي ينادى عليّ وكأني متسول يطرق الباب منتظراً صدقة عابرة من أصحاب البيت الموصدة أبوابه.
عدت إلى مكتبي، جلست على الكرسي، فتحت كتاب "في الثورة" لحنة أرندت، وقعت عيني على فقرة تشرح الكاتبة راي مونتيسكو حول مبدأ الفصل بين السلطات، وتكتب "… إن الاكتشاف الذي تحتويه جملة واحدة فقط يطرح المبدأ المنسي الذي يحدد هيكل السلطات المنفصلة عن بعضها، وهو المبدأ الذي يقول إن السلطة توقف السلطة…". ثم في فقرة أخرى تقول "… إن القوانين تواجه دائما خطر إلغائها من قبل سلطة الكثرة، أما في حال النزاع بين السلطة والقانون فيندر أن يكون القانون فائزاً…"! لنسأل أنفسنا اليوم عن الفائز في صراع الشرعية مع السلطة!
لهيب يحرق الثقة
كل يوم يمر، والهوة بين السلطة والمواطنين تتسع وتكبر، فأمس الأول، وعلى أثر الأحكام الجزائية التي صدرت بحق النواب السابقين الداهوم والصواغ والطاحوس، تأججت نيران الغضب والسخط ضد السلطة، وشاهدنا صورتها في تجمُّع ديوان الصواغ والمسيرة التي أعقبته إلى ديوان الطاحوس، فقد أطلق المتجمعون هتافات قاسية ضد الأحكام القضائية بشكل خاص والسلطة الحاكمة بوجه عام، ولا أعلم بِمَ سيهتف المتجمعون بديوان مسلم البراك، وهو الذي سيكون في محكمة الجنايات يوم الاثنين المقبل بالتهمة ذاتها التي وجهت إلى زملائه الثلاثة وهي المساس بالذات الأميرية؟
هل يمكن للسلطة أن تحتوي الأزمة التي أخذت تكبر ككرة الثلج يوماً بعد يوم، وبعد كل قرار أو حكم حبس ضد مغرد أو ضد نائب سابق له ثقله الشعبي الكبير بين الناس، أم أن السلطة تراهن على عنصر الزمن، وأن المواطنين، بعد فترة، "يطخون" وسينسون، وكأن شيئاً لم يحدث، وبعدها تتكرم السلطة عليهم بما تجود بها أريحيتها من عطاءات مادية تكون بمثابة الأفيون المخدر لوعيهم وتطلعاتهم إلى المشاركة الحقيقية في السلطة! أو ربما يراهن أهل الحكم على تفكك الجماعات المعارضة لمرسوم الصوت الواحد الذي همّش شرائح عريضة من الشعب! يجوز، وهذا "الجواز" (الاحتمال) الذي قد يكون مهيمناً على فكر حكامنا هو الخطر على الدولة.
فليست قضية اليوم هي ما إذا كان المواطنون سيركدون وسيهدأون بعد فترة، طالت أم قصرت، أو أن المعارضة ستتوهج في أيام محدودة ثم يخبو نورها في أيام تالية، بكلام آخر هو تصور واهم أن المعارضة نفَسها قصير في غياب قيادة ذات نهج واضح قادرة على الحشد الشعبي دائماً.
أزمة اليوم الخطيرة هي التباعد بين السلطة والشعب، وهي الجدار الذي يعلو يوماً تلو آخر عازلاً بين أغلبية المواطنين المهمشين سياسياً وسلطة الحكم، ففي كل الأحوال التي يمكن تصورها عن "ركود" المعارضين الساخطين بعد فترة، أو الرهان على تفسخ وانحلال هممهم، ذلك كله تصورات قاصرة، ورهانات خاسرة في النهاية، فالثقة المفترضة بين السلطة والشعب إذا تحطمت لا يمكن إصلاحها، وهذا ما على السلطة أن تعيه جيداً، ولا تراهن على المجموعات الضيقة للمطبلين الملتفين حولها، فليس هؤلاء مَن يصح المراهنة على ولائهم، ولا يجوز النظر إلى أن مصالحهم وشرههم هي مصالح الدولة ومستقبلها… فهل ستحتوي السلطة أزمةً خلقتها بداية، أم ستظل في مكانها تتفرج ساهمة على لهب يحرق الدولة بمن فيها؟
لماذا نعجز بعد الثورة؟!
في 9 يناير 1992 كتب الراحل د. فؤاد زكريا في "القبس"، تحت عنوان "الجزائر لماذا؟" الآتي: "… كلها أسئلة تقودنا إلى صميم المشكلة، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أننا في عالمنا العربي والإسلامي، قد نكون قادرين على القيام بثورات رائعة، لكننا أقل قدرة بكثير في عملية البناء التي تعقب نجاح الثورة، فنحن نصل إلى أعلى المستويات في مواجهة الظلم والتمرد عليه، أي في مرحلة الهدم الذي لابد منه، أما في مرحلة البناء فإن الزمان يفلت من أيدينا، وتنطفئ شمعة النضال التي صاحبت عملية التصدي للمغتصب…".
لم يكن فؤاد زكريا يضرب الودع، ويقرأ الفنجان، قبل عشرين عاماً، بل كان يقرأ العقل العربي – الإسلامي في ذلك الوقت، والذي يبدو أنه لم يتغير بعد ربع قرن تقريباً، فقد قامت ثورات الربيع العربي، التي يختلف البعض على تسميتها "ثورات"، ويصفها بـ"تمردات" شعبية (أدونيس على سبيل المثال)، فتم إسقاط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا، وتم عزل علي عبدالله صالح في اليمن، وفي سورية لم يسقط النظام ولم تسقط "الثورة" إنما بقي نهر الدماء يسيل فيها… إذاً أين المشكلة في عملية البناء بعد الثورة؟! ولماذا لا يستقر الحال في أم الدنيا وأم العرب؟ ولماذا تظاهرات ميدان التحرير والسويس، التي بدأت سلمية وانتهت بقنابل المولوتوف على مؤسسات الدولة وهناك رئيس منتخب شرعياً، ولم تمض عليه في منصبه ثمانية أشهر؟ وهل تستطيع القيادة المصرية بناء الاقتصاد المصري المحطم وإطعام ملايين الأفواه الجائعة في مثل هذه الظروف القلقة…؟!
من جهة أخرى، ماذا حدث في ليبيا؟! قتل الدكتاتور المرعب وقتلت معه وحدة الأرض الليبية. وانتشرت دويلات الميليشيات الجهادية والقبلية، وكل واحدة هي دولة قائمة بذاتها، أما الحكومة الشرعية فإنها بلا حول ولا قوة… تتفرج ولا تستطيع أن تعمل شيئاً من أجل احتكار سلطة العنف وإقامة دولة القانون…! أما اليمن "التعيس" فقد نسينا كل أخباره بعد زوال حكم علي عبدالله صالح، لكننا نعرف أن حاله أسوأ من ليبيا بكثير، دويلات قبلية وطائفية تنمو فيه من دون غذاء برميل النفط، كما هو الأمر في ليبيا… وصور أطفال يسحقهم الجوع يمكن أن تكون شعاراً مظلماً لليمن "السعيد".
أما سورية، وهي مهد وحاضنة القومية العربية، فإنها في طريقها لأن تكون مهد الحركة الجهادية المتطرفة، أو ستسلك في أفضل الظروف السكة اللبنانية بصيغة "لا غالب ولا مغلوب" أو الدرب العراقي كخيار قريب، وفي أسوأ الظروف هناك الدرب الصومالي لا قدر الله، أما تونس فلننتظر تجليات العقلانية عند حزب النهضة، فقد تبشر بالخير، فلهذه الدولة التراث البورقيبي، الذي يحد من التطرف الأصولي في النهاية.
لنعود لملاحظة الراحل فؤاد زكريا، واستغرابه العجز العربي – الإسلامي عن بناء الدولة، وتقدمها بعد الثورة أو بعد التحرر من مغتصب السلطة المحلي الدكتاتور أو الأجنبي المستعمر! كي نفهم ملاحظة الراحل القيمة لنسأل أنفسنا، أولا: هل كان العرب المسلمون في يوم ما أمة واحدة؟! ونتحفظ هنا عن "الدول" الأموية والعباسية، ثم العثمانية، وما تم عقب ذلك من مرحلة التفكك والضياع القومي وخلق الدويلات العربية الحاضرة بالرسم على الرمال من قبل الاستعمارين البريطاني والفرنسي، فلم يكن هناك مفهوم لوحدة الهوية الثقافية كأساس لخلق الدولة – الأمة، ونستثني مصر وربما تونس والمغرب… في العالم العربي.
والسؤال الآخر: هل قامت طبقة وسطى تزيح جانباً "المسألة الشرقية"، أي تراث الدولة العثمانية لتقيم دولاً حقيقية، أم لم يحدث؟! فكل ما لدينا اليوم، هو الدول الريعية التي خلقت السلطات الحاكمة فيها "طبقتها الوسطى" كي تحيا الأخيرة على راتب الحكومة من دون ضريبة، وبالتالي من دون حرية ولا ديمقراطية…!
يبقى في النهاية التساؤل المشروع: عن دور دول الخليج في "الثورة المضادة"، ومحاولة إجهاض الثورة المصرية الآن، وهل هذا الاتهام من الكاتب سعد محيو صحيحاً تماماً أم لا…؟! ارجعوا لموقع الأستاذ سعد "الآن – غداً" لعل فيه الإجابة!