مما قرأته وتابعته لسيرة عميد الأدب العربي الراحل الكبير نجيب محفوظ أرى انه أخل بإنجازاته ونهج حياته بكل الموروثات المعتادة، فقد جرى العرف على أن يسبق ويتقدم من درس في الغرب وتكلم لغته واطلع على ثقافته، من بقي محصورا في محيطه المحلي، إلا أن العميد خالف الأمر وتفوّق، وهو الذي لم يغادر مصر إلا لماما، على جميع معاصريه ممن درسوا وعاشوا إما في الغرب أو في الاتحاد السوفييتي.
ويظهر كسر العميد محفوظ للموروثات السياسية واضحا وجليا بانتمائه وحبه الشديد للنقيضين «الوفد» الذي يمثل الليبرالية والرأسمالية الوطنية، والشيوعية التي تسبب تنكيل ناصر بها أواخر الخمسينيات بجعل محفوظ يكتب سلسلة من أجمل روائعه الناقدة للنظام الناصري والتي رفض هيكل نشرها في الأهرام فنشرها صديقه رجاء النقاش في مجلة الإذاعة والتلفزيون، ولم يمنع إهداء ناصر قلادة النيل لمحفوظ من إكمال نقده لنهج حكمه، وقد ظل محفوظ محافظا على مسار العيش على النقائض وكسر الموروثات الأدبية والسياسية والحياتية عبر استمراره حتى آخر أيامه في حضور جلسات الأحد لفندق شبرد مع دعاة التطبيع مع اسرائيل وعلى رأسهم الكاتب علي السالم، ثم حضور جلسة الثلاثاء في «فرح بوت» مع الناصريين ومنهم الكاتب يوسف القعيد.
أما حياة العميد المديدة التي قاربت القرن فقد كسر بها كذلك كل الموروثات وما هو محفوظ في كتب الصحة والطب، فقد كان نجيب محفوظ مدخنا ويعترف للنقاش بأنه كان محششا وزيرا خطيرا للنساء يزورهن حتى في مواخير البغاء، وكانت إحدى أمنياته الساخرة ان تنهار أرضية الشقة التي تعلو سكنه والتي تقطنها الفنانة برلنتي عبدالحميد حتى تقع الفنانة في حضنه، وكان الطعام الذي أدمن عليه العميد وساهم في عبقريته هو الفول والطعمية لا اللحم والكافيار، وهو أول ما طلبه عندما استيقظ من البنج في لندن بعد محاولة اغتياله.
ومن المعتاد القول ان الحياة المنزلية السعيدة هي سر الإبداع وطول العمر، والحقيقة ان حياة محفوظ كانت أبعد ما يكون عن ذلك، فقد اعترف لمفيد فوزي بأنه لم يذق السعادة قط في منزله، فابنتاه الاثنتان أم كلثوم وفاطمة لا تقرآن أدب أبيهما ولا تطلعان حتى على أفلامه، أما حرمه التي بقي زواجه منها سرا لمدة 13 عاما، فقد كانت أقرب ـ حسب قوله ـ لأبي الهول، وقد تكون حسنتها الوحيدة ان صمتها الدائم قد وفر له الهدوء الذي يحتاجه الكاتب، وفي هذا السياق يُقال ان أحد أسرار طول العمر هو «الفضفضة» أي الكلام الدائم بما يتعرض له الإنسان، والحقيقة ان الأديب نجيب محفوظ كان على الـــعكس من ذلك، فقد كان الصامت الأكبر في المنزل وفي جلسات الحرافيش، وقد أصيب بمرض الســــكر الذي يقال انه يقصّر الأعمار، إلا أنه عاش معه لمدة جاوزت 44 عاما بعد الإصابة.
وما أثر وقصر وأضر بعمر العميد هو محاولة قتله عام 95، والتي قيل ان سببها لقاء صحافي لمفتي الحركات الجهادية عمر عبدالرحمن مع جريدة «الأنباء» الكويتية والتي قال فيها نصا «إننا لو قتلنا الشيطان نجيب محفوظ عندما كتب رواية أولاد حارتنا لما تجرأ سلمان رشدي على كتابة آيات شيطانية» وقد بقي هذا الفهم قائما حتى نشرت احدى الصحف هذا الأسبوع لقاء مع أحد المتهمين بمحاولة القتل قال فيه ان سبب المحاولة هو تصريح وزير الداخلية المصري آنذاك بأنهم قضوا على الإرهاب فقاموا باستهداف الأديب الحائز على جائزة نوبل حتى يعرف العالم أجمع انهم مازالوا موجودين على الساحة.
آخر محطة:
تتبقى بعض الجوانب الشخصية حول الراحل نجيب محفوظ منها خفة دمه الشديدة، رغم صمته الدائم، وحقيقة انه كان في شك كبير بوجود الخالق جل جلاله حتى آخر أيامه عبّر عنه في روايته «أولاد حارتنا» عندما كان يتساءل عن حقيقة وجود «الجبلاوي» القاطن في البيت الكبير وكذلك في روايته «الطريق» على لسان البطل صابر الرحيماوي الذي بقي طوال القصة يبحث عن والده الرحيماوي وظل يصرخ عندما أحاط به العسكر لقتله «انت فين يا رحيماوي» وفاتت تلك الرواية طباعة وفيلما على الرقابة وأوقفت بالمقابل رواية «أولاد حارتنا» فانتشرت وحصدت له جائزة نوبل…!