البدايات… من الدهلة إلى بيروت
“الدهلة” فريج أو حي صغير من أحياء مدينة الكويت القديمة يقع في وسطها تقريباً، بين حديقة البلدية الآن التي شيدت في موقع مقبرة قديمة على شارع الجهرا غرباً وسوق واجف شرقاً والصفاة جنوباً وفي الشمال حي السبت الذي يعزل الدهلة عن فريج الجبلة وفريج سعود اللذين ينتهيان “بالفرضة” الميناء التجاري الرئيسي للكويت في ذلك الزمان. وفي ذلك الوقت من عام 1928 وفي ذلك الحي ولدت.
مدينة الكويت تحوي جل شعب الكويت، وسور الكويت كان يحيط بالمدينة من البحر في منطقة الوطية إلى البحر قبالة دسمان، يشكل نصف دائرة، ويدخل الناس ويخرجون من المدينة عبر خمس بوابات، وعلى كل بوابة أبراج يقف فيها حراس المدينة للإبلاغ عن أي حركة غير طبيعية واستدعاء قوات الحرس لو دعت الضرورة. لم يكن خارج المدينة إلا قرى متناثرة بسيطة يعيش سكانها على الزراعة وصيد الأسماك أشهرها قرى الجهراء والفحيحيل والدمنة وحولّي، فخارج السور لا ترى إلا تلال الرمل وبعض البيوت القديمة المتناثرة في الشامية وبراميل تحيط بمنطقة المطار القديم في موقع النزهة الآن. كل ما حدث من عمران خارج المدينة وملأ البر حتى وصل إلى حدود السعودية تم في السنوات الخمسين الماضية.
والدي رحمه الله هو محمد الخطيب، ووالدتي رحمها الله هي وضحة إبراهيم الخبيزي وهي الزوجة الثانية لوالدي. كان والدي يقوم بمهمات قتالية صعبة مع جدي إبراهيم، وكانا يشتركان في كثير من المعارك التي دارت في ذلك الزمان، وربما كانت هذه العلاقة هي التي أدت إلى توثق علاقاتهما واستكملت بزواج أبي من ابنته. وقد أنجبت والدتي خمسة أبناء هم حسب التسلسل العمري شمة وعقاب وفاطمة وأنا وطيبة، ولنا أخ أكبر من زوجة والدي الأولى هو الأخ جاسم.
كان والدي يمتلك عدة بيوت يؤجرها للغير تمنحه دخلاً إضافياً للأجر الذي يحصل عليه من الحكومة. ومع أن راتب الحكومة كان بسيطاً إلا أنه مع دخل الإيجار أعطانا فرصة أفضل من غيرنا من كثير من سكان حي الدهلة.
كان والدي وجدي يخرجان مع بقية أفراد الحرس إما لحماية القوافل أو لصد اعتداء على مواطنين كويتيين من بعض قراصنة الصحراء. وكانت المهمات التي قاما بها صعبة وخطيرة وكان القلق يقتلنا في كل مرة يخرجان فيها من البيت حاملين أسلحتهما مودعين المدينة لا ندري إن كانا سيعودان إلينا أو لا، ونظل قلقين بانتظار عودتهما سالمين نراقب الطريق من على سطح المنزل داعين الله أن يحفظهما من كل سوء. وكان الغياب يطول في بعض الأحيان ولم يكن هناك أي وسيلة لمعرفة أخبارهما، ولم تخل معركة من جرح هنا أو جرح هناك ولكنها كانت جراحاً بسيطة.
في إحدى المهمات حدث ما كنا نخشاه، أصيب والدي وجدي إصابات عديدة بليغة في المعركة المعروفة بمعركة “هدية” حيث أصيبا وأسرا من قبل قبائل المنتفك وكان يمكن أن يقتلا، إلا أن شيخ المنتفك من آل السعدون أمر بالإبقاء على من لديه من الأسرى ومنهم والدي وجدي وأمر بمعالجتهم، وعندما تشافوا أرسلهم إلى الكويت، ولكن والدي كان قد خسر يده اليمنى وأصيب في رجله في تلك المعركة مما جعله معوّقاً.
وبدلاً من تكريمه على تفانيه وإخلاصه قُطع راتبه الشهري في عهد الشيخ أحمد الجابر بحجة عجزه عن حمل السلاح، فكان ذلك صدمة كبيرة لوالدنا وحزن حزناً شديداً ليس لضياع دخله فقط وإنما للجحود الذي أظهره الأمير. ونتيجة لقطع الراتب تدهورت أوضاعنا المادية واضطر الأهل إلى بيع البيوت المؤجرة، فأرسل أخي عقاب رسالة إلى أحمد الجابر يشكو له الحال مطالباً بإعادة راتب والدي، فقال له: إن أردت الراتب فعليك بحمل السلاح بدلاً منه. فكان رد عقاب بأن ما جرى لوالدنا والطريقة التي عومل بها لا يشجعني ولا يشجع أحداً آخر على المجازفة بسلامته. وأثناء أول زيارة للملك عبدالعزيز للكويت طلب مقابلة الكويتيين الذين خرجوا معه في حملته للرياض ومنهم جدي إبراهيم الخبيزي، فلما رآه الملك في حالة يرثى لها استغرب واستفسر منه عن الأسباب فقال جدي: “جربة وسواها الزمن جراب” مما أغضب أحمد الجابر عليه فمنع عنه العانيّة (المساعدة) السنوية التي تقدم له من الملك عبدالعزيز بوساطة وكيله في الكويت. ثم انتقل الوالد إلى رحمة الله فاضطرت الوالدة تحت ضغط العوز إلى العمل لتوفير بعض احتياجاتنا، فكانت تشتري بعض البضائع وتبيعها على معارفها من العائلات الكويتية الثرية.
تحملت والدتي تربية خمسة أطفال والاعتناء بزوج معوق والعمل على توفير لقمة العيش الضرورية لمواصلة الحياة. كانت امرأة شديدة الصبر والتحمل ولكنها كانت مرهقة جداً بهذا الحمل الثقيل، وقد عبّرت عن حالة الشقاء الذي تعيشه شعراً أثناء مرض أخي عقاب قائلة:
الود ودي ترقد الليل يا عقاب
ونوم الضحى يا عقاب ونوم الظهاري
واخم أنا بيتي واقضي الأغراض
وتفكني يا عقاب من الأهالي
وامك وحيدة بقاعة البيت يا عقاب
لحد امبار لك ولا حد مداري
انا اسأل اللي للخلايج رداد
وهو اللي يعطي عطايا اجزالي
ولعلها ورثت هذه الموهبة من جدتها الشاعرة الموهوبة، العبيدية.
في ذلك الوقت لم تكن النساء يأنفن العمل حتى لو كان بسيطاً، وكانت الكويتيات يقمن بدور الأب حين يدخل البحر أو حين يذهب إلى الحرب، وكان غياب الآباء والأبناء يطول فتقوم الأم والأخت بالدور وتسعى لتحقيق دخل يقيها ويقي عائلتها طائلة العوز والحرمان. فكانت النساء يقمن بالخياطة والخبازة وبيع الأقمشة وحياكة “القحافي” أو الطاقيات، ويعمل الأولاد بأعمال البناء ونقل الماء وغيرها من المهن البسيطة.
تعلمتُ حياكة “القحفيات” وبيعها لأحصل على مصروف خاص إذا وجدت وقتاً للقيام بذلك. حتى الجوع عرفته وعشته في بعض الأحيان، والجوع وخصوصاً جوع الأطفال لا يعرفه إلا من عاناه.
إن الذين يتكلمون عن “المجاعة في العالم” – جزاهم الله خيراً – لا أعتقد أن معظمهم يعرف معناها الصحيح.
وقد قامت الوالدة بكل ما تستطيع لتوفير احتياجاتنا، باعت البيوت المؤجرة كما أسلفت وباعت الأقمشة وبضائع أخرى للعائلات الموسرة والمعارف، ولكنها في النهاية وقفت حائرة عند مسألة مصروفات الدراسة.
أبلغتنا في أحد الأيام أنها لا تستطيع أن تتحمل مصاريف الدراسة وعلينا ترك المدرسة، فالدخل الذي استطاعت توفيره لا يكفي إلا للحاجات الضرورية الأساسية. وكانت الدراسة بالنسبة إلينا، أنا وعقاب، شيئاًً مهماً، فنحن نراها الوسيلة التي ستفيدنا في المستقبل ولذلك لا بد من مواصلة الدراسة. وجاءت الفكرة من أخي عقاب، قال: لماذا لا نذهب إلى الشيخ يوسف بن عيسى القناعي ونشرح له حالنا ورغبتنا في استكمال تعليمنا؟ وبالفعل ذهبنا إليه وكلمناه في الموضوع فوافق على أن تتكفل دائرة المعارف بمصاريف الكتب المدرسية والدفاتر وغيرها، وكان ذلك كافياً للاستمرار في مواصلة تعليمنا، كذلك كان الحل سبباً في حل مشكلة من هم مثلنا من الطلاب… وهذه الحالة الصعبة لم تستمر طويلاً فقد ثُمِّن للوالدة آخر بيت لها بالدهلة بمبلغ محترم ثم ثمِّن لها سكننا في براحة عباس بمنطقة قبلة بمبلغ آخر كبير، وعمل عقاب بالنجارة ثم بالتجارة، وجئت طبيباً عام 1952 مما وفر لنا معيشة كريمة.
العيش في منطقة الدهلة يتيح فرصة فريدة للتعرف على طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية في الكويت.
المنطقة فقيرة يقطنها خليط من بسطاء السنة والشيعة نشأت بينهم علاقات صداقة حميمة وأخوية لا تشعر فيها بأية تفرقة أو تمييز، حتى إنك لا تميز من هو الشيعي ومن هو السني، عالم ليس فيه تعصب يقسم البشر إلى طبقات عليا وطبقات دنيا. تلمس فيها حياة الفقر وتفهم معناه خصوصاً بعد أن قُطع راتب الوالد وبيعت بيوتنا المؤجرة، فالناس هنا يمارسون المهن البسيطة كمهنة “حمالي”، أو صاحب دكان صغير أو صاحب مقهى أو العاملين فيها من الطبقات الدنيا اقتصادياً واجتماعياً.
من الأحداث العالقة بالذاكرة المعارك التي تنشأ بسبب الصراع على اقتناء كلاب “المشاحات” أي صيد القطط التي يحتفظ بها هذا الفريق أو ذاك والتي تبدأ بالتراشق بالحجارة ثم التلاحم والضرب بالعصي الغليظة أو”المشاعيب” كما كانت تسمى. ولكنها في الدهلة تتكرر أمامنا تلك المعارك خصوصاً عندما يتحدى أبناء المرقاب أبناء الدهلة وبعض أبناء حي السبت. فتلك معارك لا يمر شهر دون أن نسمع صراخها أو نرى غبارها وآثار الحجارة التي تقع على سطح منزلنا نتيجة لها. كانت معارك شباب المرقاب ضد شباب الدهلة والسبت تتم بعد العصر في الصفاة في الساحة بين بيتنا وبين الأمن العام، وكان الأمير والوجهاء يتابعونها من مواقعهم في الأمن العام وكأنهم يشاهدون مباراة في كرة القدم. ولكن عندما تأملت تلك الأحداث وجدت أنها صور تعكس طبيعة المجتمع في ذلك الوقت، وربما كان السبب أن المنطقتين فقيرتان، ووسائل التسلية محدودة لا ملاعب فيهما ولا حدائق، وهما بعيدتان عن البحر نسبياً، لأن سواحل البحر يقطنها الأغنياء في الغالب وهي أحياء غنية وبعيدة عن التعامل مع المناطق الفقيرة بل معادية للغرباء. وقد حدث أن كنت في زيارة لوالدي في قصر السيف وفي طريق العودة على ساحل البحر هاجمتني مجموعة من الصبية حين علموا أنني من الغرباء عن المنطقة، وقاموا بإلقائي في البحر وأنا لا أعرف السباحة ولكن طول نَفَسي في الغوص جعلني أصل إلى الساحل وأنجو من موت محقق. من السهل أن يُكتشف الزائر الغريب للأحياء الأخرى، فأبناء الحي الواحد يعرف بعضهم بعضاً كما يعرفون الأقارب القادمين من أحياء أخرى لزيارة أقاربهم إذا ما تكررت الزيارة، ولذلك كان من السهل أن يكتشفوا وجودي، وكان الخطير أن يقوموا بإلقائي في البحر، ولكن الله ستر.
وفي الطريق إلى مدرسة العنجري التي أدرس فيها، وهي من المدارس الأهلية “الكتاتيب”، كان لا بد أن أمرّ بفريج السبت المعادي لنا، إلا أن عبداللطيف الفارس – جزاه الله خيراً – كان يقوم بحمايتي أثناء مروري إذا ما شاهد علامات خطر. وعموماً كانت هناك مشاحنات وشجارات في مناسبات معينة بين معظم أحياء الكويت ولكنها كانت شجارات عفوية ومحدودة.
المكان الآخر الذي يشعرك وأنت طفل بالفوارق الطبقية كان المدرسة. ففي المدرسة تشعر بالفارق الكبير بينك وبين أقرانك من أبناء الأغنياء، وتكتشف أشياء لم تخطر ببالك ولم تعرف بوجودها. فأنت مثلاًً لا تعرف معنى “الخرجية” (المصروف اليومي)، بل لا تعرف حتى معنى الفلوس، لأن الأهل لا يملكون ما يسد رمقهم في الحياة ليتمكنوا من إعطاء أطفالهم أي دراهم. ملابس العيد هي واحدة، تستعمل لكل عيد. حتى الاشتراك في فرقة الكشافة في المدرسة مستحيل لأن الأهل ليس عندهم ما يمكّنهم من شراء ملابس الكشافة. أما أن يكون عندك دراجة مثل بعض الأولاد الآخرين فهذا من آخر المستحيلات. وكان من أشد ما آلمني وقتها هو ذكريات طابور الصباح في المدرسة وما كشف من حالات بائسة وحزينة لبعض الطلبة.
كان اليوم المدرسي يبدأ عادة بطابور الصباح. كنا نقف بالطابور ويمر علينا الأستاذ المراقب ليتأكد من نظافتنا. نمد أيدينا ماسكين “المصر” أي المنديل بالإبهام اليمنى وكف اليد مقلوبة للأسفل. يتأكد المراقب من وجود قطعة القماش هذه لاستعمالها في تنظيف الأنف عند الحاجة بدلاً من كم اليد كالعادة، ويتأكد كذلك من أن الأظافر قصيرة ونظيفة وكذلك اليد، إلا أنه يلاحظ أحياناً أن لون جلد اليد الممدودة لبعض الطلبة بنّي وجاف وكأنه وسخ، فيقوم مراقب الطابور بضرب الطالب لأنه يعتقد أنه لم يغسل يده جيداً، وكنا جميعاً نعتقد ذلك ولم يدر ببال الأستاذ أن تلك الآثار الواضحة على الأيدي إنما هي نتاج لسوء التغذية وغياب بعض أنواع الفيتامينات (فيتامين ب) مما أدى إلى إصابة الطفل بمرض باليجرا. وحين اكتشفت هذه الحقيقة بعد أن أصبحت طبيباً ظهرت لي بشاعة ذلك المنظر، فالطالب الفقير الذي عجز أهله – لفقرهم – عن توفير الغذاء المعقول له، تعرض لعقاب مضاعف بسبب فقر عائلته. لقد أصبح استرجاع ذلك الموقف كابوساً يؤرقني كلما تذكرته. بأي ذنب يعذب هذا الطفل البائس الفقير؟
ومن صنوف المعاناة التي أذكرها في تلك المرحلة أنه كان في فناء بيتنا بركة لتخزين المياه، تجمع فيها مياه الأمطار مما يساعد على تخفيف تكاليف الماء الذي كانت تشتريه البيوت من بائعي الماء المتجولين (الكنادرة) المستورد من شط العرب بالسفن الشراعية أو ما يُجلب من بعض الآبار المحلية. وعندما تمطر السماء في المواسم أثناء الليل توقظنا الوالدة لمساعدتها على نشر الشراع المعلق فوق حوش البيت لنصنع منه مجرى لمياه المطر يصب في البركة. كان ذلك يشعرنا بفرحة غامرة، فعلاوة على متعة العمل تحت المطر، إن لم تكن الريح شديدة، فإن جمع المياه وتخزينها يعنيان وفراً في تكاليف المعيشة. وعندما يتوقف المطر نقوم بطي الشراع وحفظه للمطرة القادمة.
في عام 1940 سافر عقاب إلى البحرين للدراسة على حساب شركة النفط، تنفيذاً للاتفاقية المعقودة بين حاكم الكويت وشركة نفط الكويت في نهاية الثلاثينيات التي تنص في أحد بنودها على إيفاد اثنين من أبناء الكويت كل سنة للدراسة العملية خارج الكويت. لم يكن أحد يعرف بوجود مثل هذا الالتزام في الاتفاقية المذكورة إلى أن كشف المجلس التشريعي بنودها السرية واطلع على التزامات الشركة، وكان من نصيب أخي عقاب أن يكون أحد الاثنين اللذين تم اختيارهما ذلك العام مع زميله خالد الغربللي لدراسة أعمال النجارة في البحرين ليعود بعد ذلك للعمل ومساعدة العائلة.
في الحي تعلمت مساعدة الغير، فالتراحم موجود في ذلك الزمن في كل أحياء الكويت. ولكون حيّنا صغيراً فالتواصل بين الناس كان دائماًً والعلاقات بين أبناء الحي حميمة ومتينة.
كنت أرى أن الشرطي “بو بريج” ينتظر طوب (مدفع) الإفطار في رمضان ليُنزل العلم من على سارية مقر الشرطة أمام بيتنا ثم يهرول مسرعاً لتناول الإفطار فى بيته، فاقترحت عليه أن يترك لي مهمة إنزال العلم ليتسنى له الإفطار مع عائلته ولا يتأخر عليهم خصوصاً أن مقر الشرطة أمام بيتنا، فوافق وشكرني على ذلك فأصبحت أقوم بمهمة الشرطي وأنزل العلم بدلاً منه كل يوم.
وكنت لا أتردد في مساعدة زملائي الطلبة على حل واجباتهم الدراسية، فقد كنت دائماًً الأول في صفي.
التركيب الطبقي
كذلك كنت أعتني بالمسجد الذي يؤمه أستاذي عبدالعزيز العنجري، وفي رمضان يصبح دوامي كاملاً في المسجد من الصباح حتى قبيل الإفطار.
من الصور التي ذكرتها يتضح أيضاً التركيب الطبقي لمجتمع الكويت آنذاك، فهناك فقراء يأكلهم الفقر وهناك أغنياء، بل تجد فروقات واضحة بين الأغنياء أنفسهم، فتجار منطقة القبلة كانوا يمارسون التجارة بواسطة أسطول من السفن الشراعية بين الهند واليمن وشرق إفريقيا، وبرّاً مع الهلال الخصيب وحتى أوروبا، فاختلاطهم بالغير زاد من ثقافتهم ومعرفتهم بالعالم وبما يدور فيه، وهذا حدد سلوكهم السياسي فأصبحوا القوة الأساسية المطالبة بالإصلاح.
أما تجار شرق، وهم بشكل عام تجار اللؤلؤ، فدائرة نشاطهم محدودة بسفن الغوص، ونشاطهم لا يتعدى دائرة الخليج، وهم جزء من عائلات شرق ومنها عائلة الصباح الحاكمة، لذلك تجد أن دورهم في العمل على تطوير الحياة السياسية أقل. بالطبع هذا التقسيم ليس دقيقاً تماماً لكنه يشكل السمة العامة، وعندما نستعرض تطور الأحداث السياسية لاحقاً نكتشف صحة هذه المقولة، فالذين سجنوا أو شردوا جرّاء حوادث المجلس التشريعي عام 1939 غالبيتهم من منطقة القبلة.
أما منطقتنا “الدهلة” مع صغرها وفقرها فقد أخرجت أيضاً قيادات عمالية لعل أشهرهم كان فهد عطية الخشتي وعاشور عيسى، وتصدت هذه القيادات لشركة نفط الكويت لنصرة العمال الكويتيين فيها ونظمت أول إضراب عمالي في تاريخ الكويت مما سيأتي تفصيله، ومنها خرج الشاعر الشعبي منصور الخرقاوي.
بيتنا كان مطلاً على ساحة الصفاة، وكانت الأرض المقابلة للبيت الممتدة على “طريق البصرة” (وهي الآن بداية شارع الجهرا من ناحية ساحة الصفاة) ملكاً لنا بحسب وثيقة البيت الممهورة بتوقيع الحاكم مبارك الصباح، ومن موقع بيتنا كنا نستمتع بمراقبة ما يجري في تلك الساحة.
في الليل نذهب إلى السطح نتندر ونضحك على الرجال الذين يأتون إلى الصفاة من الطرق الضيقة المظلمة ليواجهوا بأنوار المقاهي الموجودة في الصفاة، فيتعثروا بأشرعة السفن التي “تخاط هنا” وبمساميرها فيسقطون على الأرض. لقد كانت الأرض تشكل المتنفس الوحيد لنا للمرح والتسلية، وأتذكر الحفرة الكبيرة الملاصقة للمقبرة (حديقة البلدية حالياً) حيث كانت تتجمع فيها مياه الأمطار، ويتجمع حولها بدو العراق مع حميرهم، بعد أن يبيعوا بضاعتهم في الصفاة، كي يسقوا دوابهم ويرتاحوا حولها لبعض الوقت، وكانت مراقبتهم متعة وهم يرتدون تلك الملابس المميزة ونوع عُقُلهم الغليظة. كذلك كنا نستمتع بمراقبة أنواع كثيرة من الطيور تحط حول الماء وخصوصاً طيور “القطا”.
كان لسيارات الأجرة موقف في الصفاة قرب الأمن القديم وكان خالي زيد إبراهيم الخبيزي مالكاً لإحداها ويعمل عليها، فكنت أفرح إذا جاء راكب ليستأجر سيارته وينطلق بها حسب طلب الزبون، إذ كنت أرى حصول خالي على زبون شيئاًً كبيراًً يدخل السعادة إلى نفسي.
كان الأمير أحمد الجابر معتاداً على الجلوس بعد صلاة العصر في الصفاة أمامنا مع بعض من أصحابه، وكان والدي يتولى إعداد القهوة العربية بالطريقة الصحيحة إذ يتم إعداد القهوة على مرحلتين لمدة يومين، ويقدمها للأمير أحمد الجابر الصباح وأصحابه.
ومما علق في ذهني كارثة أمطار “هدامة” عام 1934 وذلك عندما استمر هطول الأمطار لفترة طويلة بغزارة لم تعهدها الكويت، فأخذت البيوت الطينية بالانهيار، وخرجنا من بيتنا خوفاً من انهياره علينا ولجأنا إلى خيمة نصبناها أمام البيت، ولكن أبي رفض مغادرة البيت، فكنا ننظر إلى البيت بقلق خائفين على الوالد إلا أن البيت بقي صامداً ولله الحمد.
الاستيلاء على أرضنا
في الدهلة أيضاً رأيت الظلم والقهر ينصبّان علينا مباشرة نتيجة لزيادة تدخّل أبناء الأسرة ومشاركتهم للأمير في سلطاته. فبعد أحداث “مجلس 1939” تبوأ أفراد الأسرة الحاكمة المناصب الرسمية وزاد نفوذهم واتسع بعد أن كانت السلطات بيد الأمير الحاكم وحده. وقام علي الخليفة الصباح، أول مدير للأمن العام المتوفى عام 1942، بتسوير أرضنا والاستيلاء عليها وأنشأ عليها دكاكين، فقامت والدتي بتقديم شكوى للمحكمة الوحيدة في الكويت، وكان يرأسها عبدالله الجابر. وبعد مدة أخبرها عبدالله الجابر أن علي الخليفة الصباح يقول إنه سيعطيها ثلاثة دكاكين فقط، فرفضت الوالدة العرض متمسكة بحقها بالأرض كلها، فوضعنا علي الخليفة أمام الأمر الواقع واستولى على أرضنا أمام أعيننا ولم يكن هناك من طريق لاسترداد حقنا وخسرنا الأرض كلها. ولما باعت الوالدة البيت أصرت على أن يذكر في الوثيقة أن البيعة للبيت فقط وليس الأرض، قائلة إن الأرض لي وسوف يأتي حاكم عادل يخاف الله ويعطيني حقي. وتوفيت رحمها الله دون أن تحقق أمنيتها بعودة حقها في أرضها.
كنا أطفالاً حينها ولكننا فجعنا بخسارتنا الأرض الفسيحة التي كنا نلعب فيها “الهول” و”المقصي” و”الدرباحة” وغيرها من الألعاب الشعبية أثناء النهار.
وحين شكّل عبدالله السالم عام 1954 اللجنة التنفيذية العليا لحل الاختناق السياسي في الكويت، وهو ما سيأتي تفصيله، طُلب من كل ذي حق أن يشتكي للمجلس فقدم أخي عقاب شكوى للمجلس ضد علي الخليفة الذي استولى على أرضنا، وكان حامد الشيخ يوسف القناعي سكرتيراً للمجلس، إلا أن المجلس لم ينظر في شكوانا. من نحن حتى نشتكي على أحد الشيوخ؟ وكانت نصيحة حامد الشيخ يوسف لأخي قوله: انس الموضوع أسلم لك. وهكذا كان!
وعندما استقلّت الكويت عام 1961 وجرت انتخابات المجلس التأسيسي وأصبح للكويت قضاء مستقل استشارني أخي برفع دعوى للمحاكم للمطالبة بأرضنا، وكان ذلك بعد انتخابات المجلس التأسيسي وانتخابي نائباً للرئيس، فقلت له إن تقديم الشكوى الآن يمكن أن يفسر بأنني خضت الانتخابات لمنفعة شخصية وهو ما لا أقبل به، فصرف عقاب النظر عن هذه الخطوة.
وقد علمت عندها أن اغتصاب أراضي المواطنين وأملاكهم من قبل بعض الشيوخ أو من أعوانهم تكرر كثيراًً، ولم نكن الوحيدين الذين تعرضوا لمثل ذلك الظلم فكثيرون عاشوه ولا يزالون، وهناك قضايا في المحاكم إلى يومنا هذا تنتظر الفرج من الله لاستعادة الحقوق المسلوبة.
كذلك لا يمكن أن أنسى منظر مجموعة من العائلات البائسة، من رجال ونساء وأطفال، وهم يُنقلون بعربات إلى حوطة قريبة من بيتنا كقطيع من الغنم، ثم يتم نقلهم إلى أول سفينة مسافرة إلى إيران بحجة أنهم إيرانيون ووجودهم يشكل خطراً على عروبة البلد، بحسب ما كان يؤمن به من تأثروا بالمذهب الوهابي المعادي للشيعة وبحسب التعصب القبلي العنصري السائد في الجزيرة. ومع أن الكويتيين لم يعتنقوا المذهب الوهابي بل إنهم في أوقات قاتلوه، إلا أن الجو العام في الجزيرة تأثر في أكثر من موقع بهذا المذهب، وتسبب في خلق مشكلات لم أفهمها، فكيف لأناس بائسين أن يشكلوا خطراً على الكويت. وكان ذلك في زمن المجلس التشريعي عام 1938 ولم أكن في تلك السن أفهم هذه الإجراءات القاسية، وإنما شعوري الإنساني جعلني أشمئز منها، ورأيت بعد سنوات كم عانت الحركة الوطنية من تلك الإجراءات وكيف أنها عمقت الشعور الطائفـي واستمـرت حتى يومنا هذا.
صلب المنيس
ولن أنسى أيضاً ذلك اليوم الذي تجلت فيه الوحشية بأبشع صورها أمام عيني في ساحة الصفاة. فقد كنت طالباً في المدرسة المباركية، وجاءنا خالد العدساني وألقى خطاباً حماسياً لم أستوعبه تماماً، ولعله كان يدعو الطلبة للتظاهر لتأييد المجلس. وعندما كنت في طريق عودتي إلى البيت لفت انتباهي الجلبة الموجودة في الصفاة أمام بيتنا وأمام الأمن العام. فرأيت مجموعة من الرجال أشكالهم غريبة عراة الصدور، كثيفي شعر الرأس كالنساء يترجلون من سياراتهم ويلقون برجل ملطخة ثيابه البيضاء بالدماء على الأرض، ثم يعلقونه على خشبة منصوبة بشكل صليب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. كان المشهد مرعباً ومثيراً للخوف والاشمئزاز، فلم أر في حياتي شيئاًً مثل هذا يحدث ولم أتخيل أن إنساناً يمكن أن يعامل بهذه الوحشية من قبل أناس لا يمتّون إلى الآدميين بصلة. وقد ذكرت الوثائق البريطانية أن الملك عبدالعزيز بن سعود قد أرسل 300 من رجال القبائل لمساعدة أمير الكويت ضد المجلس التشريعي، وأتبعهم بثلاثمئة آخرين لم يسمح لهم أحمد الجابر بدخول الكويت لأنهم من قبيلة معادية. وقد عرفت لاحقاًً أن الشخص الذي صُلِبَ كان من قادة الحركة الديمقراطية الإصلاحية آنذاك وهو محمد المنيس، رحمه الله.
وقد تمكن أحمد الجابر من قمع الحركة واعتقل بعض قادتها واضطر بعضهم إلى الهروب من الكويت، وقد رأيت بأم عيني رجالات الكويت من أعضاء الحركة الديمقراطية في الطابق الأسفل من السجن مربوطة أرجلهم بسلاسل وهم يمشون في الساحة عندما زرت والدي قرب قصر السيف، وقد أخبرني بهويتهم وسبب اعتقالهم.
المدرسة المباركية
في بداية حياتي الدراسية التحقت بالمدرسة المباركية حيث كان يدرس أخي عقاب، وفي اليوم الأول طلب مني أحد الأساتذة أن أنقل ما هو مكتوب على اللوح فتحيَّرت في المقصود، فاللوح مقسوم إلى قسمين والمدرس لم يحدد من أيهما أنقل فوقفت مشدوهاً دون أن أكتب شيئاً. ولما رجع إلى الصف بعد مدة واكتشف أنني لم أكتب شيئاً قام بضربي كعادة المدرِّسين في التعامل مع التلاميذ المخالفين. وعندما عدت إلى البيت ظهراً أخذت بالبكاء وقررت أنني لن أعود إلى المدرسة وبقيت في البيت، وقد علم بذلك عبدالعزيز العنجري الذي كانت لديه مدرسة أهلية فقال لوالدتي: إيتيني به، فذهبت إلى مدرسته فكان يعاملني معاملة طيبة، كان يجلسني بقربه ويسقيني من “غرشته” الخاصة ماء بارداً الأمر الذي غيَّر نظرتي إلى المدرسة بالكامل، وقد نذرت الوالدة أن تعطي أستاذي أول راتب أستلمه بعد تخرجي، وفعلاً أعطيتها أول راتب استلمته كطبيب من وزارة الصحة وسلمته له – رحمه الله.
تركت مدرسة العنجري والتحقت بالمدرسة الأحمدية على ساحل البحر في منطقة القبلة، وكان بداية وصول بعثة المدرسين الفلسطينيين، وأدخلت في الصف الثاني الابتدائي دون امتحان لكثرة الطلاب المتقدمين وعدم قدرة هيئة التدريس الجديدة من المعلمين الفلسطينيين الأربعة على تصنيف الطلبة جميعهم في وقت معقول لا يؤثر في سير الدراسة، وعندها كان التدريس يتم في المدرسة المباركية والأحمدية فقط. وفي السنة الثانية افتتحت المدرسة القبلية فالتحقت بها لأنها أقرب إلى منزلنا ودرست فيها الصف الثالث، وبعدها انتقلت إلى المباركية لألتحق بالصف الرابع الابتدائي لعدم وجود صف رابع بالقبلية، وبقيت في المباركية حتى أنهيت الصف السادس الابتدائي وبدأت بالدراسة في الصف الأول الثانوي لأغادرها إلى بيروت; فأطول فترة دراسية قضيتها في المباركية كانت ثلاث سنوات ونصف سنة، أتاحت لي الفرصة أن أتعايش مع جو آخر غير جوي، فازدادت معارفي لشرائح أخرى من المجتمع.
المركز الأول
كنت مصرّاً على أن أكون الأحسن وأحتفظ بالمركز الأول، إذ كانت المنافسة بيننا الثلاثة أنا وأحمد العريفان وأحمد اليماني (بو رشود لاحقاً)، وكنت دائماً الأول ما عدا شهراً واحداً في الصف الخامس الابتدائي، ومع ذلك كنا أصدقاء حميمين وظلت صداقتنا ومحبتنا لبعضنا دائمة، وكانت العادة أن الأول في الصف يكون هو مراقب الصف مما يلقي عليَّ مصاعب جمة في محاولة ضبط الهدوء في الصف دون خسارة صداقة زملاء الصف ودون التعرض للمحاسبة من مدير المدرسة لعدم القيام بالواجب وهو تسجيل أسماء المشاغبين على اللوح.
وذات يوم تعرضت للضرب لأول مرة في حياتي الدراسية من الأستاذ عبداللطيف الصالح وهو مدرس اللغة العربية وكان معروفاً بصرامته، فقد كان كل من عبدالله البنوان وعبدالله العلي المطوع القناعي من أكبر المشاغبين في الصف، وكنت أغض النظر عنهما لأنهما صديقان عزيزان عليَّ. فمرة كان عبداللطيف الصالح في جولة مراقبة للصفوف فوجد الاثنين مشتبكين في معركة وأنا أحاول أن أصلح بينهما دون أن أسجل اسميهما على اللوح. وأصبنا بالرعب ثلاثتنا عندما شاهدناه واقفاً على الباب يتفرج علينا، فقام بضرب الاثنين على اليد كالعادة وطلب مني مراجعته في مكتبه بعد الدوام، ولما دخلت عليه وبّخني وضربني على يدي بشكل موجع. كان يوم الخميس الذي عادة ما أخرج فيه من المدرسة وأذهب إلى بيت خالتي مريم الفرحان القريب من المدرسة لأتغدى عندها “محمر سمك” أكلتي المفضلة، لكنني ذلك اليوم لم أستلذ بها لعدم قدرتي على استعمال يدي اليمنى من فرط الألم.
في المدرسة المباركية أيضاً تبلور تديني; صلاة العصر تقام في المدرسة وكان الأستاذ جابر حديد أستاذ الرياضيات المخيف يناديني “أقم الصلاة يا خطيب” لآخذ دور أخي عقاب بعدما سافر إلى البحرين للدراسة عام 1940.
أنا والرياضيات
كنت شغوفاً بالرياضيات ومتفوقاً في دروسها ودائماً أحصل على العلامة الكاملة، وقد أدرك ذلك جابر حديد، وأذكر أنه استدعاني مرة لحضور الصف الثاني الثانوي، وكنت في الصف الرابع الابتدائي وقال لي: “حل هذه المسألة المكتوبة على اللوح”. واتضح أن أحداً في الفصل لم يستطع حلها فاستدعاني لحلها إمعاناً في تأنيبهم، وكان واثقاً بأني قادر على حلها. هذه الموهبة تأكدت أيضاً عندما ذهبت إلى الجامعة الأميركية- الثانوية العامة – عندما قُبلت في الصف الثاني الثانوي مع أني كنت أحمل الشهادة الابتدائية من الكويت باللغة العربية. وقد أعجبت بأستاذ الرياضيات في الجامعة الأميركيةواسمه مال هولاند من بريطانيا وفكرت في التخصص بالرياضيات ولكن تخصص الرياضيات لم يكن يؤدي إلا إلى العمل مدرساً وهو ما لم أكن أرغب فيه. وفي الجامعة بعد أن تبلورت اهتماماتي السياسية رأيت أنه ربما يكون مضيعة للوقت أن أدرس أربع سنوات أخرى بعد تخرجي من الجامعة للحصول على شهادة الدكتوراه في الطب، ولكن الشهادة الجامعية تجبرني أيضاً أن أكون مدرساً ليس غير، وهذا ما جعلني أواصل الدراسة لأصبح طبيباً قادراً على ترك الوظيفة الحكومية المقيدة للدور الذي كنت أطمح أن أقوم به في المعترك السياسي لأحقق الأهداف الوطنية والقومية التي آمنت بها.
وفي المباركية بدأت أتعرف الشعور القومي الذي زرعه الأساتذة القادمون من فلسطين المهددة من الإنجليز والصهاينة، والمرشحون للكويت من قبل مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني – وقد أحسن الاختيار. وكان التصاقنا بالأستاذ فيصل رشيد الطاهر شديداً لأنه يبقى في الصيف بالكويت ويفتح المدرسة المباركية نادياً للرياضة والتسلية والرحلات مشياً على الأقدام. ومرة ذهبنا إلى قرية الفنطاس، ورجعنا في اليوم نفسه ركضاً ومشياً على الأقدام، وكذلك كان يعلمنا بعض التجارب الكيماوية. وعشنا معه مأساة الفلسطينيين خصوصاً بعد ثورة 1936 ، واكتشفنا تعلق الفلسطينيين بالعراق لما تقدمه القوى القومية العراقية من الدعم للفلسطينيين، وحزنهم لإخفاق حركة رشيد عالي الكيلاني ووفاة الملك غازي الذي جرى تأبينه في ساحة المدرسة المباركية مما أغضب الحاكم أحمد الجابر الصباح وأدى إلى أن أخرج ولديه جابراً وصباحاً من المدرسة.
كان أستاذنا فيصل الطاهر قد علّمنا كيف يُصنع البارود وهذا يعكس أثر الصراع الدائر في فلسطين، وخصوصاً الصراع العربي – الإنجليزي – الصهيوني في فلسطين.
متفجرة داود البدر
وفي أثناء العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) على مصر عام 1956 بسبب تأميم قناة السويس، وبينما كنت أقوم بجولة في المستشفى الأميري كطبيب مناوب، وجدت صديقنا داود البدر في قسم الجراحة ممدداً على السرير والدكتور الإنجليزي بري ينظر إليه بريبة، فوجه داود به حروق سطحية سوداء، فسلمت عليه بحرارة ليفهم الدكتور بري بأن هذا صديقي، وطلبت منه أن يترك علاجه لي، فانسحب وهو ينظر إلينا نظرة مريبة كونه عمل في الجيش البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية.
الجو الحماص سي الذي ساد الكويت أثناء العدوان حمل داود البدر على أن يحاول صنع متفجرة كما علّمنا الأستاذ فيصل الطاهر ليلقيها على سكن بعض الإنجليز، إلا أنها انفجرت في وجهه ولكونها بدائية فإنها لم تسبب له أية عاهة، ومرت الحادثة بسلام.
ويبدو أن الدكتور بري رئيس الأطباء في المستشفى الأميري عدَّ ما أصاب داود من ضرر كافياً وأنه بسكوته يسجل عليَّ معروفاً.
في هذه الفترة عُيِّن عبداللطيف الشملان القادم من البحرين بعد أن أنهى دراسته عام 1940 مدرساً للغة العربية في المدرسة المباركية وهو خريج كلية دار العلوم بمصر، وسرعان ما جعلني أحس بتعاطفه نحوي وكان يحاول أن يساعدني بأي وسيلة، فقد كان يعطيني بعض الكتب لقراءتها، ومرة أعطاني ديوان المتنبي وطلب مني أن أحفظ الديوان بعد أن عرف أنني أحفظ القرآن الكريم لأنني في رمضان أقرأ ختمة كل يومين. وذات مرة كان برد الشتاء قاسياً فخلع سترته وألبسني إياها لأنه وجدني أنتفض من البرد فبدا شكل السترة كمعطف واسع على جسمي الضئيل.
ومما وسَّع مداركي المعرفية صداقتي لعبدالمحسن الروضان، زميلي في الدراسة، فقد كان شغوفاً بالقراءة وكان يعطيني الكتب التي يقرأها باستمرار فلا يمكنني أن أنسى فضله عليَّ.
استمر عبداللطيف الشملان – بعد أن عُيِّن مديراً للمعارف عام 1942 – في دعمه لي لتميزي بالدراسة وقرر إرسالي إلى الجامعة الأميركية في بيروت لإتمام دراستي، فقام بمراسلة الثانوية التابعة للجامعة الأميركيةيطلب منهم قبول طالبين من الكويت، إلا أنهم أبدوا تحفظاً على العدد بسبب عدم معرفتهم بالنظام التعليمي في الكويت إذ إن جميع الكويتيين الذين يدرسون أو درسوا في الثانوية الأميركيةكانوا قد جاؤوا عن طريق مدارس العراق، وبالتالي فقد طلبوا أن يتم ابتعاث طالب واحد من النظام التعليمي الكويتي على سبيل التجربة، الأمر الذي عنى أن المرشح الوحيد هنا كان فهد الصرعاوي وأنني قد خسرت فرصتي في الدراسة بالخارج، لأنه الأول في الثاني الثانوي وأنا الأول في الأول الثانوي، إلا أن القدر والمصادفات كانت تخبئ غير ما كان متوقعاً. في الوقت ذاته (يناير 1942) حدثت مشكلة في المدرسة حول موضوع أوقات الدوام المدرسي، فقد كان الدوام المدرسي دوامين فترة في الصباح وفترة ثانية في العصر باستثناء يوم الإثنين إذ تكون الدراسة في الفترة الصباحية فقط، فكان أن تدخّل أهالي التلاميذ مطالبين إدارة المدرسة بإلغاء عطلة عصر الإثنين وجعلها دواماً عادياً، وحين استجابت إدارة المدرسة لمطالب الأهالي احتج التلاميذ على ذلك الأمر فاجتمع مراقبو الفصول المختلفة، وعادة ما يكون مراقب الفصل هو الحائز على المرتبة الأولى دراسياً مما عنى أنني كنت مراقباً لفصلي، وقرروا تصعيد رفضهم لذلك الإجراء عن طريق الإضراب، فتم استدعاؤنا كمراقبين ومسببين “للشغب” إلى المحكمة التي كانت حينها برئاسة عبدالله الجابر الصباح وعضوية عبداللطيف الشملان وأحمد شهاب الدين مدير المباركية وأخذوا يجروننا فرداً فرداً للمحاكمة في المدرسة المباركية. وعندما جاء دوري استوقفني عبداللطيف الشملان قائلاً: ما الذي أتى بك إلى هنا؟ وطردني قائلاً: هذا طفل لا يفهم شيئاً. وأيده عبدالله الجابر بسبب العلاقة الطيبة مع الوالد. وقد ترتب على ذلك أن تم فصل كل المشاركين بالإضراب ومن بينهم الصرعاوي الأمر الذي أعاد إليّ فرصة الترشيح للبعثة إذ لا يوجد في هذه الحالة منافس لي. وهكذا كانت المصادفة المحضة قد أدّت دوراً محورياً في اختياري للبعثة إلى بيروت لاستكمال دراسة المرحلة الثانوية ومن ثم الجامعية.