.. وضاق المقام بنا يا ولدي، فما لنا وللصبر الجميل، فهيا بنا للرحيل، وعندما بلغنا الوصيدا، قالت لي: «يا ولدي لا تحزن، إللي ما يريدك لا تريده»، همستْ: يا حافر البير، بربك قل لي لهذا سبب؟ ورحلنا.. وقبل رحيلها الأخير، قالت لي أمي، والقلب كسير: «أحن إلى العراق يا ولدي، أحن إلى نسيم دجلة، إلى طينها المعطار إلى ذياك الخميل، بالله يا ولدي، إذا ما زرت العراق، بعد طول الفراق، قبل الأعتاب، وسلم على الأحباب، وحي الديار، وانس ما كان منهم ومنا». هذه الليلة، زارتني أمي، وعلى شفتيها عتاب: أما زرت العراق بعد؟ أما قبلت الأعتاب؟ قلت: والله يا أمي لي إليها شوق ووجد، ولكن الدار قفر، والمزار بعيد، بعد أن قتلوا مجد هارون الرشيد، ففي كل شبر من العراق لحد، ومياه دجلة والفرات، كأيام التتار، تجري فيها دماء ودموع، تحطمت الصواري وهوت القلوع، فكيف الرجوع؟ أماه، ليس في العراق اليوم عز ومجد، لم يبق فيه سوى الضياع والدموع! أماه، كيف أزور العراق؟ أما ترين كيف يُنحر عراقنا الحبيب، من الوريد إلى الوريد؟ ويقتل المسلم أخاه، فكيف بنا ونحن يهود! خبريني بالله يا أمي كيف أعود، ولمن أعود، ونحن يهود؟!
هذه قصيدة كتبها شموئيل موريه في أكتوبر 2006، ولكن من منا سمع به؟ ربما لا أحد أو قلة، ولم أكن منها حتى الأمس القريب، وسبق أن كتب عنه سمير الحاج في «إيلاف» قبل سنوات، وقال عنه بأنه بروفيسور إسرائيلي – عراقي، ولد في بغداد عام 1933، ويعمل محاضرا في الجامعة العبرية في القدس وباحثا عريقا في موضوع الأدب العربي، وتشكل دراساته وأبحاثه مصادر أساسية في جامعات العالم، واشتهر بشكل خاص بأبحاثه في تطور أشكال الشعر العربي الحديث وموضوعاته وموسيقاه بتأثير الأدب الغربي، وبالذات تأثر الشعراء المهجريين، فيما استحدثوا من أشكال شعرية، بالتراتيل المسيحية البروتستانتية المترجمة الى العربية. كما يعتبر كتابه «المسرح الحي والأدب الدرامي في القرون الوسطى في البلاد العربية» سابقة أدبية ورائدة في الاستنتاج بأن العرب عرفوا المسرح، حيث فند فيه رأي المستشرقين والباحثين القائل بعكس ذلك. وقد اهتم بروفيسور موريه بإصدار وبحث الإنتاج الأدبي ليهود العراق بالعربية، ورأى فيه غصنا من شجرة الأدب العربي الحديث. وقد حصل في عام 1999 على جائزة إسرائيل، التي تعتبر الأعلى لباحث أو أديب أو كاتب في المجال الاجتماعي والعلمي. وفي مقابلة مع قناة الحرة ذكر أنه غادر العراق في الخمسينات، تاركا وراءه حزنا، بعد تعرضه للضرب في الشارع ومطالبته بالهجرة، لأنه يهودي. ووجد نفسه، وهو ابن خير، وليس معه غير 5 دنانير وحقيبة صفيح!
وردا على سؤال عن أعماله الغزيرة في الأدب والشعر والمسرح العربي، قال انها تجد صدى بين المستشرقين في إسرائيل، أما لدينا فقد منعت أعماله، خوفا من كلمة «تطبيع»! وقال إنه يفضل الكتابة بالعربية، لأنها كالأم، أما العبرية فهي كالصديقة. وقال إنه لا يزال، وبعد 60 عاما يشعر بالألم لما تعرض له من اضطهاد في وطنه الذي لا يزال يحن اليه، وقال: «نقّل فؤادك ما شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول»! وهنا خنقته العبرة ولم يكمل، وشاركته فيها، ليس حزنا فقط على ما تعرض له مثقف من اضطهاد من دون مبرر، بل أيضا لما ستتعرض له الأجيال القادمة من ابناء الكويت، ومن خيرة متعلميها ومثقفيها، من اضطهاد وتشريد في البلاد سيهاجرون اليها، إن استمرت موجة الحقد الطبقي والطائفي والسياسي والديني التي بدأت في الاستشراء بمعونة قوى الظلام النيابية، وتلك المتمثلة في بعض كتّاب الصحف، ومنها القبس، والذين لن يهدأ لهم بال، إلا بعد سيطرة قواهم الظلامية على مقاليد الأمور!
أحمد الصراف