بعد سنوات من الضوء الإعلامي، سواء في الكتابة الصحافية أو في البرامج التلفزيونية، توقفت على جانب الطريق، ونزلت عن راحلتي، وفتحت مزودتي لأتفقد أسلحتي وحاجياتي.
يقال: “كي تكون إعلامياً متميزاً يجب أن تكون ملماً بكل ما حولك، أو بغالبيته على الأقل”، إذاً على بركة الله، سأتفقد إلمامي بكل ما هو حولي… سأتفقد معلوماتي عن السيارات، مثلاً، والأجهزة الإلكترونية، والبخور (العود الأزرق كما نسميه في لهجتنا)، والدواب (الإبل والغنم والخيل والبقر وغيرها)، وبقية الحيوانات، والمأكولات، بخضارها وبصلها وقثائها، والملبوسات، بجودة خاماتها ومسمياتها، و… و… و…
عن السيارات، معلوماتي لا تفوق كثيراً معلومات والدتي، أطال الله عمرها. إذ لا أعرف سنة صنع هذه ولا تلك، ولا نوع هذه ولا تلك، ولا الفارق بين هذه وتلك، ولا سعر هذه ولا تلك… كل ما أعرفه مستوحى من ذاكرتي القديمة جداً، وهي ذاكرة تنقص ولا تزيد.
وعن الأجهزة الكهربائية، ما زلت يتيماً أحتاج إلى رعاية أبوية، من الأصدقاء ومن أبنائي، في طريقة التعامل مع الأجهزة الكهربائية والهواتف الذكية وبقية الاختراعات الحديثة.
وفي محلات العطورات الشرقية، أقصد محلات البخور تحديداً، لا يختلف منظري كثيراً عن منظر السواح الأوروبيين في خان الخليلي في مصر. فلا فرق عندي بين “كمبودي” و”بورمي” و”هندي” إلا بالسعر. وكي تبيعني بسهولة، وأخرج من المحل أدعو لك بالصحة، ولوالدتك بطول العمر، يكفيك أن ترفع سعر البخور الرخيص، وستجدني اشتريته بإذن الله.
أما الدواب، فبيني وبينها سلام من بعيد، وتلويحة مسافر في قطار. وفي الآونة الأخيرة أكرمني الله فصرت أميز بين الذكر والأنثى، بعد أن تضاحك المحيطون بي على مديحي لتلك الناقة التي تبين أنها بعير (فحل معتبر من علية القوم بين الفحول). ولا أدري هل أستطيع التمييز بين البقرة والثور أم لا (التمييز بين الخروف والنعجة ترف لم أحلم به).
أما المأكولات، الخضار منها تحديداً، فأنظر إليها كما ينظر الطفل العربي إلى وجوه اليابانيين والصينيين، ولا أعرف بمَ تختلف “الكزبرة” عن “الشبنت” عن “البقدونس”، وعن وعن وعن…
وفي الملبوسات، لم أعد أجرؤ على الذهاب بمفردي إلى السوق لاختيار قطع خامات الثياب، بل لم أعد أشتري خامات أساساً، واكتفيت بما يهديني إياه ذوو القلوب الرحيمة من الأصدقاء والأشقاء، باعتباري فاقد الأهلية في التمييز بين الخامات.
بعد هذه السنوات، اكتشفت أن مزودتي خاوية، إلا من التمييز بين جمال هذه الصبية وتلك، وهذه القصيدة وتلك. على أن سلاحي الذي منه أقتات وبه أصطاد عشائي وغدائي هو الخيال وصناعة الجملة اللعوب وصياغتها وربط الفقرات بعضها ببعض، بطريقة قد تعجب القارئ، وكان الله غفوراً رحيماً… أما في التلفزيون فيؤكد أصدقاء السوء أنني أمتلك “حضوراً” أثناء الحديث، وبسبب هذا لم ينشب حتى اللحظة عداء بيني وبين الكاميرا.
وإن كان لهذه المزودة الخاوية فائدة، فهي أنها خفيفة على الأكتاف. ويا رحمة الله.