ينسب لماوتسي تونغ قبل أو بعد لقائه بالرئيس نيكسون مقولة إنه يفضل التعامل (أو التفاوض) مع اليميني المحافظ على اليساري القريب من الصين، فالأول أكثر وضوحاً في تعامله وحسمه، وقد يكون ترامب الجمهوري اليميني، الذي يرى العهد الريغاني نموذجاً كبيراً لليمين يحتذى به، يمكن أن يتعلم منه الكثير من المراهنين العرب الواهمين بالحلم الأميركي لحل قضايا المنطقة العربية التي خلقها الاستعمار البريطاني الفرنسي في اتفاقية سايكس بيكو، ثم عهد بها للخليفة الأميركي الكبير.
الرئيس ترامب كان واضحاً حاسماً في تأييده للتوسع في المستوطنات الإسرائيلية ونقل السفارة الأميركية للقدس، وبالتالي اعتماد القدس كعاصمة إسرائيلية، وحقق ترامب وعده بمنع المسلمين من دخول أميركا بأن حدد مواطني سبع دول عربية إسلامية لم يقتل أي فرد منها أميركياً واحداً من عام 75 حتى الآن، كما وضح فريد زكريا في برنامج جي بي إس، وهو في هذا حقق استثماراً شعبوياً كبيراً عند البسطاء الذين صوتوا له… والرئيس ترامب أقر ممارسة التعذيب للمتهمين بالإرهاب، وطبعاً هناك الكثير المتوقع من إدارته نحو المنطقة لا يصح أن يكون مفاجأة للقيادات العربية، وبالأخص القيادة الفلسطينية حين تروج لأمل الوهم بالدولتين.
أين جديد ترامب المختلف على أرض الواقع وفي المضمون، فمثلاً الرئيس الأقرب لليسار الليبرالي (نسبياً) وللمثل الأميركية العليا أوباما، وعند كل الإدارات الأميركية السابقة، كلها رفضت سياسات الاستيطان الإسرائيلية بالضفة وعارضتها رسمياً، لكن لم يتغير أمر واحد واقعاً غير المزيد من الدعم لإسرائيل، وتحديث جيشها بالأسلحة الفتاكة لتبطش “بإرهاب” حماس وفق التعريف الأميركي الإسرائيلي، ولتقتل آلاف المدنيين، وظلت حماس على قائمة الإرهاب، ولا يهم أنها جاءت باختيار ديمقراطي شعبي لبؤساء قطاع غزة. ففي آخر الأمر، عند الواقعية النفعية الأميركية، لا يهم أن يكون النظام تسلطياً دكتاتورياً أو ليبرالياً ديمقراطياً، أو دينياً ثيوقراطياً، المعيار هنا ما إذا كان هذا أو ذاك النظام يسير أم لا يسير تحت الظل الأميركي الممتد لأغلب بقاع العالم.
أين جديد ترامب في قبوله الصريح للتعذيب للحصول على اعتراف من المتهمين بالإرهاب، فالإدارات السابقة كانت تحرم التعذيب لكن ليس على الأرض الأميركية، فالدستور والقوانين الأميركية تحظره، لكن تسليم أحدهم كمشكوك في أمره لدولة أجنبية تمارس تعذيب المتهمين السياسيين، مثل شرب الماء، كمعظم النظم العربية، يصبح أمراً مقبولاً، وهذا ما حدث يوماً في عهد بوش الابن حين تم خطف الموطن السوري الكندي عرار، وتسليمه للسلطات السورية للحصول على اعتراف بالتعذيب، ولم يثبت بحقه شيء فيما بعد، وليس هذا ببعيد عن الممارسة البريطانية حين كانت تسلم بعض الليبيين المعارضين المشكوك بهم لنظام القذافي، ولم لا يكون التعذيب في “غوانتنامو”، فهذه الأرض مستأجرة من كوبا، وليست أرضاً أميركية، أما “السيادة” الفعلية على هذه الأرض، وبالتالي تخضع للقانون الأميركي أم لا يمتد لها، فليس هذا بشأن الإدارة الأميركية كي تبحث فيه.
المقولات التي حفرت في الذهن الليبرالي العالمي، مثل الحلم الأميركي، ووعاء الصهر الأميركي، والاستثناء الأميركي، ومدينة على التلة (بمعنى الرمز المثالي) لن يتغير أمرها، كي يتحسر على أفولها عدد من كتاب الرأي هناك بعد نجاح ترامب، فلم يفعل الرئيس الجديد شيئاً حيالها، غير أنه أزاحها كستار كان يغطي الوجه المرعب للسياسة الأميركية، ولا يبقى من أمل عند المحبطين غير شموع تضيئها القوى الحية التي تقود المظاهرات الآن في المطارات الأميركية وأحكام قضائية تقدمية، تمثل بقايا من تراث جميل لمؤسسات الحق يعمل ترامب على طمسها بلا هوادة.