دخل دونالد ترامب البيت الأبيض بغرابة كبيرة بالمقارنة مع أي رئيس سابق، وهو ما يعكس عمق الانقسام وطبيعة المنحدر الذي تمر به الولايات المتحدة. في لحظة تنصيب ترامب لم تتجاوز شعبيته وفق الاستطلاعات ٤٠ في المئة، فيما كانت شعبية باراك أوباما ٧٧ في المئة في يوم تنصيبه. وفي يوم التنصيب نفسه حصل أوباما الجالس خلف ترامب على نسبة ٦٠ في المئة من القبول بينما لم يحصل ترامب إلا على ٤٠ في المئة. في حفل التنصيب وقف الرئيس الجديد، وبينما كان يجلس خلفه أربعة رؤساء سابقين ديموقراطيين وجمهوريين، مؤكداً أن تاريخهم خال من أية قيمة تذكر، وأن أميركا تعود إلى نفسها مع انتخابه وتنصيبه رئيساً. واستمرت الكاميرات المرتعبة من التنصيب تلتقط الوجوه والوجوم، بينما كان أوباما يستمع لخطاب ترامب الشعبوي ناظراً إلى الأرض وكأن لسان حاله يقول: ليت هذا اليوم ينتهي بسلام. لقد بدأ عهد ترامب مع الإثارة وسينتهي مع الإثارة.
واعتذر عن عدم حضور هذا الحفل المغنون والمغنيات الأميركيون، فقد تفادى الوسط الفني البروز بمظهر التعاون مع إدارة لا تحترم الفن والحريات والتعبير ويرأسها ترامب بتعبيراته الفظة وأسلوبه غير المعهود، بل فضل الكثير من الممثلين والمغنين المشاركة في الاحتجاج على تنصيب ترامب قبل أن يبدأ حكمه. في الوقت نفسه قاطع حفل التنصيب عدد مهم من أعضاء الكونغرس الديموقراطيين وهذه سابقة، كما عمت تظاهرات في أوروبا وفي الولايات المتحدة وفي العاصمة الأميركية ضد تنصيبه. كما سارت تظاهرات في فلسطين رافضة إعلانه عن إمكان نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
لقد وعد ترامب في خطاب التنصيب أن يجعل أميركا عظيمة من جديد، رفع شعار «أميركا أولاً». فهل سينجح في إقناع الناخبين بعد أربع سنوات بأنه نجح؟ وهل سينجح الرئيس ترامب بعد عامين، عندما ستجرى انتخابات الكونغرس النصفية، بأنه يستحق تجديد الثقة؟ وهل سينجح في استئصال الإسلام المتطرف وفق تعبيره؟ وما هو الإسلام المتطرف: المسلمون الأميركيون أم المسلمون في كل مكان أم الفلسطينيون أم «حزب الله» أم الثورة السورية أم «داعش» أم بعض الداعمين العرب للقضية الفلسطينية؟ وهل نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس ينهي التطرف أم يضيف إليه؟
لقد اختار ترامب لإدارته الجديدة شخصيات يحوم حولها الكثير من القضايا والمسائل. ففي جلسات الاستماع لوزيرة التعليم تبين أنها لا تعرف شيئاً عن التعليم، وليست على صلة بالنقاشات الأساسية حول التعليم في الولايات المتحدة. وفي جلسة الاستماع لوزير الطاقة فوجئ بأسئلة من أعضاء مجلس الشيوخ حول خطط ترامب إلغاء عدة برامج أساسية للطاقة والطاقة البديلة، لكن الوزير لم يعرف كيف يجيب، خصوصاً أنه ضد إيقاف هذه البرامج. فمن البداية كان واضحاً أن الوزير مختلف مع رئيسه ومحتار، وحدث الأمر ذاته عند تعيين وزير الدفاع، الذي اعتبر حلف «الناتو» أهم حلف في التاريخ بينما يتحدث ترامب عن فقدان «الناتو» قيمته ودوره. هذه التناقضات والاختلافات تعكس حالة عدم التوازن في الإدارة الجديدة قبل أن تبدأ يومها الأول. ويتضح وفق مجلة «أتلانتيك» الأميركية أن خطاب الرئيس ترامب في اليوم الثاني لتنصيبه أمام وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي)، لم يلقَ استحسان المستمعين من الوكالة الذين توقعوا أن يكون خطابه موجهاً إليهم ولدورهم. بل أعلن أمام الوكالة بأن حرباً تشن عليه من قبل وسائل الإعلام. لقد نسي ترامب الذي يرتجل خطبه مخاطبتهم في ما يهمهم.
ولأن الجمهوريين يسيطرون على معظم الإدارات بما فيها الكونغرس، فمن السهولة بمكان أن يضلل ترامب نفسه وأن يستمع للكثير من المديح، بالتالي سيفوته ما يقع في الشارع الأميركي من حراك. أميركا في مأزق كبير مع ترامب، كما أن التظاهرات ضده تعبير عن بداية تحرك ضد سياساته خصوصاً في الشأن الداخلي الحقوقي. لترامب مشكلة مع وسائل الإعلام، ولديه قضايا مع أجهزة الاستخبارات ومع الرأي العام ومع الفنانين المبدعين، كما مع الصناعيين وأصحاب كبرى المؤسسات المالية. كما أن سياساته ضد المسلمين والحقوقيين وذوي الأصول اللاتينية بدأت تخلق تضامناً أوسع مع هذه الفئات من قبل حكام ولايات ورؤساء بلديات وتيارات شعبية.
ويتضح لقطاع كبير من المجتمع الأميركي أن سبب فوز ترامب هو أساساً عدم مشاركتهم وعدم إدلائهم بأصواتهم، وقناعتهم بأن ترامب لن يفوز مهما كان أداء هيلاري كلينتون. ولهذا يمكن تفسير التظاهرات الكبرى المنطلقة يوم السبت الماضي على أنها صحوة سياسية لقطاع كبير من الجيل الأميركي الشاب ومن الأقليات والملونين والنساء وغيرهم. ويبدو من المقدمات أن ترامب سيحرك ضده أكبر طوفان سياسي شعبي منذ حرب فيتنام. في هذا يشعر جيل كبير من الأميركيين بأن عليهم مسؤولية كبرى في تغيير وجه الولايات المتحدة السياسي والاجتماعي، وذلك لمصلحة العدالة الاجتماعية والتنوع والديموقراطية والحريات. وهذا بطبيعة الحال سينتج طبقة سياسية جديدة ذات منحى يساري نقدي لم تعرف الولايات المتحدة مثله في السابق. الأميركيون في بداية حراك جيلي كبير مشكل من كل من يشعر أن ترامب سيقضي على الحلم الأميركي.
وتؤكد الإحصاءات نزول أكثر من ٣ ملايين أميركي إلى الشارع في اليوم الذي تلى التنصيب، وقد يكون العدد أكبر من ذلك. ففي بعض المدن تواجد في الشارع مئات الآلاف، وفي مدن صغيرة خرج إلى الشارع ٤٠ ألفاً، وهكذا سارت حوالى خمسمئة تظاهرة في الولايات المتحدة. وهناك توقع بأن تتطور هذه المجموعات والتحالفات السياسية الشبابية النسائية في الشهور والفترات المقبلة باتجاه حشود أضخم وأكبر. الهدف من كل هذا إيقاف خطط ترامب التي أعلن عنها تجاه المرأة وتجاه الأقليات. حتى المجموعات اليهودية الأميركية تشعر بالكثير من الخوف والرعب من طروحات ترامب ومنطقه. حتى اللحظة وصل عدد من وقعوا على بيان يطالب الرئيس ترامب بالإعلان عن بيانات الضرائب الخاصة به وبشركاته إلى ٢٨٠ ألفاً، وحتى اللحظة لم يوافق على تقديم بياناته.
من جهة أخرى، لا يوجد عضو في مجلس النواب والشيوخ الأميركي يستطيع تجاهل حراك الشارع في منطقته وفي ولايته. ففي أميركا ديموقراطية راسخة، وضغوط الشارع ستنتقل إلى الكونغرس الأميركي، وذلك من خلال الكتابة والرسائل والتظاهر ووسائط التواصل الاجتماعي وأشكال أخرى من الاحتجاج السلمي. وهذا يعني أن موقف العديد من أعضاء الكونغرس سيتحول نحو المعارضة لسياسات ترامب في كل ما يتعلق بالحريات والمرأة والأقليات، لكن عدم قيام الأعضاء بذلك سيعرضهم لهزيمة مدوية في الدورة المقبلة من الانتخابات عام ٢٠١٩. لقد أطلق ترامب مارداً كبيراً.
ويتضح أن الحزب الديموقراطي، الذي يبدو منهاراً ومفككاً الآن، سيستمد قوة جديدة مكونة أساساً من النشطاء الجدد. فالأميركيون سيفرزون في العامين المقبلين آلاف النشطاء ممن سيجتاحون الحزب الديموقراطي متحولين إلى طاقة تغيير مكونة أساساً من ممثلي حركة الاحتجاج من الملونين والنساء والشباب وذوي الأصول اللاتينية والمسلمين والتقدميين البيض وغيرهم من القادرين على المنافسة في انتخابات الكونغرس المقبلة عام ٢٠١٩. لكن الفرز سيكون أكبر باتجاه الانتخابات العامة بعد أربع سنوات. هناك دعوات في الأيام الأخيرة بأن يكون كيث اليسون، وهو أميركي مسلم وعضو في الكونغرس من الملونين رئيساً للجنة الوطنية للحزب الديموقراطي. هذا تطور كبير إذا وقع، والأهم أن كيث يساري الاتجاه ناقد لإسرائيل، وكان مؤيداً قوياً وأساسياً لحملة برت ساندز. كيث يمثل جيلاً مختلفاً من السياسيين، وقد أخذ الكثير من الزخم لترشحه لهذا المنصب في الأيام القليلة الماضية. يكفي أن اتحادات العمال الكبرى أيدت ترشحه، وهذه قاعدة تاريخية للحزب الديموقراطي.
إن الحراك الشعبي الأميركي ضد الإدارة الراهنة سيكون في غاية الأهمية لحال الديموقراطية في العالم، خصوصاً في ظل صعود التسلطية في بقاع مختلفة في العالم. والعالم العربي بالتحديد سيراقب النزاع الأهلي والسياسي الأميركي، فنتيجته ستترك أكبر الأثر على المشروع الديموقراطي في العالم العربي. ويقع كل هذا بينما المنطقة العربية من أضعف مناطق العالم في تأمين الحقوق ومن أكثرها ظلماً للمعارضين والناقدين، ومن أقلها في العالم تأميناً للعدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للسكان. لهذا فتأثير الحراك الأميركي على العالم العربي مرتبط بكون العرب يقفون اليوم على أعتاب حراكات سياسية كبيرة.
إن القوى التي تتشكل ضد ما يرمز إليه ترامب ستتعاظم تنظيماً، خصوصاً في حال قيام البيت الأبيض بأخذ قرارات متهورة تمس الحريات والحقوق والإعلام والأقليات. الصراع الأميركي أو الحرب الأهلية الأميركية الجديدة تخاض بوسائل قانونية وديموقراطية وغير عنيفة. لكن في نهاية هذه الحرب سيكون وجه الولايات المتحدة قد تغير تماماً. يصح القول إن تاريخاً أميركياً جديداً يبدأ الآن، لكن ليس بسبب ترامب وتنصيبه بل بسبب معارضته ونقده والتصدي لسياساته.