لطالما عرفت أمريكا كدولة إعلامية وسينمائية من الطراز الرفيع. وذلك لسطوة صناعة الصورة الإعلامية في ذهنية العامة، كما في كل مناحي الحياة من صناعة نجوم الفن إلى نجوم السياسة، بما يتجاوز المجتمع الأمريكي إلى الدولي. والإعلام الأمريكي في سطوته لا يغطي الأحداث بل يصنعها. لذا فقد كان فوز ترمب على كلينتون صدمة كبيرة للإعلام، الذي اعتُبر مضللا في رسم توقعاته وللصورة والابتعاد بها عن الواقع. لكن سطوة الإعلام والصورة هي سطوة المصالح بالدرجة الأولى، حتى وإن بدت متبناة من بعض الشعب حين خرج المتظاهرون يوم تنصيبه وقاموا بتكسير السيارات وواجهات المحال، فيما حاولت الشرطة تفريقهم مستخدمة رذاذ الفلفل. ما يحدث في الولايات المتحدة يذكرني بأحداث المسلسل الأمريكي الشهير House of Cards، الذي يستعرض خبايا نخبة واشنطن السياسية، وذلك بنقل صورة واقعية عن صناعة السياسة وإدارة شؤون الحكم والسلطة، وكيفية وصول صناع القرار عبر صناديق الانتخابات من قبل الشعب، وكيف تحدد القواعد الدستورية والقانونية الثابتة أدوار كل منهم، وكيف يخضع الجميع للسلطة القضائية المستقلة من خلال الرقابة والمساءلة. لكن اللافت هو كيف تتحول تلك المبادئ العظيمة للديمقراطية الأمريكية إلى ممارسات رمادية تكرس نفوذ المال واللوبيات وجماعات الضغط والمصالح الاقتصادية الكبرى أمام صناديق الانتخابات؟
لا شك أن ترمب صوت شعبوي حملت كلمته يوم التنصيب محتوى ما نادى به أيام الانتخابات. لم يبتعد عن شخصيته المثيرة وآرائه في جميع إشكالاتها. لكن من الناحية الأخرى، ثمة من أشعل وصول ترمب القلق لديهم وهم بعض نخبة واشنطن السياسية كما منافسيه في المال والأعمال. الأمر الذي دفع إلى الاستنفار وخوض حرب صريحة بصيغ عدة باستخدام الإعلام، هو الإعلام الذي لطالما استخدم لعبة الصراع بين الخير والشر وإسقاطه على شخصيات الواقع، ومن ذلك تصوير ترمب شخصية الرئيس الانتهازي في المسلسل الشهير. إلا أن ثمة أسباب أخرى قد تكون ضمن مصالح بحتة لصناع المال تتجاوز المسألة الديمقراطية وأجواءها العامة. مصالح قد تكون مثل وقوف ترمب ضد مشروع صفقة استحواذ ضخمة بقيمة 85 مليار دولار لشركة AT&T على مجموعة شركة TIME WARNER وهي المالكة لقنوات CNN. هو ترمب الذي سبق أن أعلن خلال حملته الانتخابية أنه سيقف ضد هذه الصفقة، بوصفها مثالا على النفوذ الذي يحاربه. وهذا يعني خسائر فادحة للمجموعة في الصفقة الأكبر في الإعلام الأمريكي، كما وصف ذلك تقرير “نيويورك تايمز”. وليس ذلك فحسب بل سيكون هذا الاستحواذ انطلاقا لعمليات مشابهة في صناعة الإعلام وبين شركات عدة تبحث هي الأخرى عن شركاء لزيادة أعمالها وأرباحها، وذلك على غرار استحواذ شركات لمجموعات إعلامية كبرى عدة أخيرا. وهي تعني بصيغة أو بأخرى مزيدا من خضوع مؤسسات الإعلام الأمريكي لسيطرة المال والنفوذ.
وهنا قد تظهر أسباب غائبة وراء هجوم CNN القاتل مثالا ضد ترمب. لذا فالمواجهة الآن تتجاوز المواجهة الشخصية بين ترمب المرشح والإعلام؛ بل بين إدارة جديدة وبين النخبة السياسية والمال والإعلام، وهو ما ينعكس على شؤون أخرى كثيرة نشهد فصولها تباعا.