قبل أن تمتلئ ودياننا بشعراء يعتقدون أن الشعر ليس إلا وزناً وقافية، لا أكثر من ذلك ولا أبعد، كنا ننتظر جديد أولئك العظماء، كل أسبوع، ببقايا صبر وفائض شوق. كنا ننتظر صفحة الشعر في جريدة القبس بلهفة العشاق. كنا نحسب على الروزنامة كم يوماً بقي على العدد الجديد لمجلة المختلف الشعرية، وشقيقاتها. كنا نتخاطف صفحات الشعر، ونتناقش حول هذا الشاعر وتلك القصيدة. وكان للشعر حمى لا يدخله إلا من يختارهم هو.
في تلك الأيام، لم أكن أثق أو لم أكن أقرأ لـ”الشعراء من أبناء الذوات”، مع بعض الاستثناءات. لقناعتي بأن الإبداع يأتي من الشوارع الخلفية، والأزقة الضيقة، في الغالب. في تلك الأيام، كنت واحداً ممن يقرأون نتاج مجموعة محدودة من الشعراء، كمساعد الرشيدي وفهد عافت ونايف صقر، ومساجلات ضيدان وحسين رحمهما الله، ومتعب التركي، ومن في قامتهم، وهم قلة، على أية حال. كنا نقرأ ولا نهز فناجيلنا.
كنا نتناول ما يقدمونه لنا فيُشبعوننا شعراً، فنكتفي به عما سواه، على أن ننتظر جديدهم قبل أن نتم قراءة ما بين أيدينا. كنا نتبادل، بدهشة وطرب، قصيدة نايف صقر “الموت حظ القلم والمجد للدفتر”، وكنا نتخيل المشهد ونحن نقرأ لفهد عافت “فتنة الحفل زيدي مشيتك بخترة”، وكانت آهات إعجابنا تختلط بتصفيقنا ونحن نقرأ لمساعد الرشيدي فاخرته “الكنة”، التي تعملق فيها، وقال في جزء منها: “ما أقول شفته وشفت البيض يَتلنّه / أقول شفته وشفت الشمس منجومة”، ويقول: “فيه انتهى النور… لا والله بدا منه / فجرٍ نعس بالوريد ونام بهدومه”! وما زلت أتلذذ بطعم تلك القصيدة، وأستعيد نكهتها ومذاقها، رغم كل هذه السنين.
سمعنا بعد ذلك عن سعد بن جدلان الأكلبي، رحمه الله، فانعاجت رقابنا إلى الجنوب، وسقنا ركابنا إلى منبع البرق، فشاهدنا رياضاً تسر الناظرين، ووجدت نياقنا ما يسرها ويشبعها. وصرنا نتنقل ما بين عيون الماء العذب الغزير، فهنا الأكلبي وهنا نايف ومساعد وفهد، وهنا عين غزيرة اسمها عين ضيدان بن قضعان، ووو…، فاخضرّت صحارينا.
وقبل يومين، قالوا: ذهب مساعد الرشيدي، فقلت: ذهب بعض الشعر، ومساعد باقٍ.
رحم الله مساعد بن ربيّع الرشيدي، وألهم أهله وأصدقاءه ومحبيه وعشاق الشعر الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون.