شهدت تركيا عدة تحولات سياسية واجتماعية وثقافية بعد “علمنة” الدولة وإعلان النظام الجمهوري في أواخر عشرينيات القرن الماضي، وهذا ما جعل مصطفى كمال أتاتورك هو المنقذ و”المصلح الأول” بعد انهيار الدولة العثمانية، ولسنا هنا بصدد التحليل التاريخي والسياسي لأسباب الانهيار العثماني أو تفنيد وتشريح شخصية أتاتورك وخطابه وفكره، ولكن لا يمكن تناول موضوع القوى الإسلامية ووضعها الراهن وعلاقتها بالقوى العلمانية دون التطرق للجزء التاريخي السابق الذي خلق تياراً سياسياً عريضاً بعد أتاتورك، والذي يعرف باسم “الكمالية”، حيث يرتكز هذا التيار على علمانية يشبهها المفكر الفرنسي أوليفيه روا بالدولة اليعقوبية، وهي كناية عن مرحلة الدكتاتورية أثناء الثورة الفرنسية.
إن الهدف الأول والرئيسي للعلمانية، كما هو معروف، هو الفصل بين الدولة والدين، وليس محاربة الهوية الدينية ومظاهرها كما حصل في عهد أتاتورك حتى بداية تسعينيات القرن الماضي. إن تهميش الدين، خصوصاً في مجتمع مسلم، ليس موضوع العلمانية كفلسفة ترتكز على العقلانية والتقدم! بل إن استيراد العلمانية وفرضها كثقافة سياسية وأسلوب حياة ونظام حكم بالقوة (تدخل المؤسسة العسكرية على سبيل المثال) لن يلغيا هوية مجتمع ولن يبدلاه بهوية أخرى. لقد كان المراد بالعلمانية ذات الصيغة الأتاتوركية فك ارتباط تركيا عن الشرق الأوسط وعن كل ما هو إسلامي وتغريب الثقافة والتعليم والعادات والتقاليد. لقد تحولت الفكرة الإسلامية، وما يتفرع عنها من جوانب سياسية واجتماعية وثقافية من الأساس، إلى الهامش، وأصبحت الكمالية هي الأساس لأكثر من سبعة عقود، وهذه المرحلة عرفت نوعاً من التغيير المحدود والمؤثر في نفس الوقت في عام 1980، عندما سمح لجميع القوى السياسية، بمن فيهم الإسلاميون، بالتعبير عن أفكارهم وإعلانها.
بعد الصعود السياسي لحزب الرفاه، ذي التوجه الإسلامي المعتدل، وتولي نجم الدين أربكان رئاسة وزراء تركيا عامي 1996 و1997، انقلبت المؤسسة العسكرية على الحكم وتم حظر الحزب في 1998 بتهمة انقلابه على مبادئ العلمانية. إن قوة العلمانية الأتاتوركية قائمة على تدخلات العسكر، وهذا يقودنا إلى عدة تساؤلات: هل فصلت العلمانية في تركيا الدين عن الدولة وأدخلت العسكر في اللعبة السياسية؟ وهل حماية العلمانية من قبل القوة العسكرية يصب في مصلحة قناعة المجتمع بالفكرة العلمانية؟
العلمانية تتحول إلى إرهاب متى ما فُرِضت بالقوة، وهذا ما عرفته تركيا من خلال تاريخ الانقلابات العسكرية على الديمقراطية، وقد كان إرهاب الدولة في صالح المكون الإسلامي (الهامش) ويقظة الهوية التركية التي يشكل الدين الإسلامي جزءاً أصيلاً فيها، وقد انعكس ذلك على المسألة السياسية، وبشكل خاص في الانتخابات البرلمانية والرئاسية وحتى البلدية بعد صعود حزب العدالة والتنمية (AKP) المتمثل في فوزه وثقله الانتخابي والذي يظهر بنفس الوقت تنامي قوة الحركات السياسية ذات الجذور الإسلامية.
وفي المقابل تعكس هذه الانتخابات ونتائجها تراجع القوة الكمالية، ولا نبالغ إذا قلنا إن المكون الكمالي في الوقت الراهن بدأ يفقد تأثيره السياسي وأصابته الشيخوخة، ولكن هذا لا يعني بقاءه في الهامش ومحاربته كما حصل مع المكون الإسلامي، والمشهد السابق في حد ذاته هو تحول على المستويين السياسي والاجتماعي.
إن صعود الهامش الإسلامي وتراجع الأساس العلماني الأتاتوركي يطرحان قضية في غاية الأهمية على المستوى الاجتماعي، وهي أن الهوية الإسلامية وما يرتبط بها من خيارات وتعبير ثقافي وفكري لا يمكن تحييدها عما هو سياسي وكبتها بحجة العلمانية، ومتى ما حصل ذلك فستفقد قيمتها ومعناها وستكون الخيارات المجتمعية مناهضة لما هو علماني.
آخر مقالات الكاتب:
- ساعة مع الغنوشي
- من هم الإسلاميون التقدميون؟
- الإسلاميون والكماليون في تركيا: صعود الهامش وتراجع الأساس
- الحشاشون في المخيلة الروائية
- قراءة في قرار مشاركة “حدس”
- وعود حزب النهضة التونسي
- حزب حركة النهضة التونسي : من خيار الدمج إلى خيار الفصل
- أزمة الفكر العربي
- قراءة لقصة مناضل يعيش بيننا الآن
- لم تكن سجيناً يا أبا حمود