قد أحب أحيانا تجربة تاكسي لندن أمام مطار الملك خالد في الرياض، ليس لأن التاكسي ضمن شخصية الرياض بل لمدينة أثيرة لدي، عريقة وعتيقة مثل لندن. هذه المرة وقفت على الكاونتر لأطلب التاكسي المميز، لكن العامل قدم لي سيارة أخرى بدلا عنها وقال بإنجليزيته الهندية: تفضلي سيدتي، ليموزين لندن! استعضت بنظرات السخرية تجاهه عن الجدل العقيم ودلفت إلى السيارة. وإلى داخل الرياض لمحت دراجات سباق هوائية يقودها شبان بخوذات وملابس رياضية أنيقة. كان منظرا جميلا خاصة لو كان فعلا مألوفا ومستمرا كنشاط شعبي يعطي للمدينة مظهرا حيويا، لا سيما والمدينة شبه فارغة من المشاة.
أغلب المدن العالمية لها شخصيات عدة، مثل البشر. وتبدو الرياض كورشة عمل مستمرة في المشاريع التي تتوسع حتى لكأنها ستتحول إلى مدينة متروبوليتان. وقد قرأت إحصائية أخيرة لها بأن عدد سكانها زاد على ثمانية ملايين نسمة. لا شك أن التخطيط الحضري وتنمية المدينة لا يرتبطان فقط بالهيكل الجامد، وإن كان تخطيط الشوارع والعمران له فلسفة أيضا. ويرتبط نجاحه بإيجاد رابطة بين الناس والمدينة، كجاذبية المجتمع نفسه. والمدن التي تكون فيها هذه الرابطة عميقة هي المدن الأنجح على المستوى “الاقتصادي”. وهذا ما تشهد به الدراسات وآراء مختصي التخطيط الحضري. فالتخطيط الاقتصادي الطموح يحتاج أيضا إلى ما يتجاوز المسائل الجافة والجداول والأرقام والمساحات إلى ابتكار روح عميقة للمكان. المدن المصنعة بلا هندسة فنية فلسفية تبدو مثل شركة لا روح فيها والناس يتعاملون معها كشركة، مثل دمية بلاستيكية. مدن لا تبدو مشهية. باريس، أمستردام، طوكيو، نيويورك، كلها مدن تتعرف إليها من روح المكان، وكما في رواية الإنجليزي تشارلز ديكنز “حكاية مدينتين”، بين لندن الملكية وباريس الثورية.
صنعت المملكة مدنا صناعية ومدنا اقتصادية لها جاذبيتها من خلال تخطيطها المهتم بأهدافها وبالجوانب المعنية نفسها. وفي الاقتصاد ما بعد الصناعي، تتضمن التوليفة التي لا غنى عنها في المدن نقاطا رئيسة وهي: شعب متعلم بشكل جيد، القدرة على توليد أفكار جديدة، وتحويل تلك الأفكار إلى واقع اقتصادي، والارتباط بالأسواق العالمية، وبلا شك بنية تحتية جيدة ومتعددة للمواصلات. ومن ذلك القطارات؛ هي التي ستشكل تحولا كبيرا في حياة الرياض. فكرة التحول جزء منها اقتصادي وجزء منها اجتماعي، فالتفاعل والاحتكاك بين الناس جزء من عملية التحول الكبير. وهذا لا يستهان به في عملية التغيير والانفتاح الطبيعي كالتكيف معه. وكل هذه التوليفة أساس “التنافسية” في الفكر الاقتصادي للمدن الكبرى. وهذا ما يميزها كمدن “بهوية” branded مختلفة عن مدن الزي الموحد uniformed، التي تبدو فيها المحال بلوحات عشوائية بأضواء النيون الخالية تماما من الأناقة، وبقالات ودكاكين تحشو الشوارع حتى التخمة. وقد يكون نسقا عالميا غالبا ألا تكتسب المدن الصغرى ذلك الشكل المميز، وتبدو امتدادا طبيعيا بسيطا للطبيعة والمكان، ولكنه لا يغتفر للمدن الكبرى.
استمعت إلى حديث الرئيس التنفيذي لهيئة الترفيه الذي صرح بأمثلة ضمن خطط ترفيهية كبرى للعام الجديد. ولا شك أن من أهداف هيئة الترفيه استقطاب الأموال السياحية التي تصرف في الخارج إلى الداخل. لكن كيف تصلح حالة الجفاء بين الناس والمدينة؟ لا بد أن يتعرف الناس إلى روح المدينة. صياغة اقتصاد جديد مثل “تحول 2020” و”رؤية 2030″، يتطلب مختصين اقتصاديين، صحيح، لكن ليس ذلك فحسب، إنه يتطلب كتيبة من علماء الاجتماع والسياسة والتخطيط الحضري والفلسفة كما الفنانين والمثقفين. وسيكون السؤال المهم: هل نريد من شخصية المدينة أن تصيغ التطوير الاقتصادي الجديد، أم التطوير الجديد يصيغ شخصية المدينة؟