ملامح الشرق الأوسط الجديد ليست كما خطط لها استراتيجياً هنري كيسنجر، ولا ما كتب عنه شمعون بيريز، ولا ما تمنته كونداليزا رايس، لكن يبدو أن فلاديمير بوتين هو من يقوم برسم خطوطها العامة بعدما جمع القوة الضاربة والدبلوماسية المرنة بكل ذكاء ووفقاً لإرادة تكاد تكون قد انعدمت في المعسكر الغربي، فلماذا نجح بوتين الروسي في حين فشل أوباما وكاميرون وميركل؟
ميدان التفوق الروسي كان على الأرض السورية، ورغم دخول الروس بشكل فعلي في المعترك السوري متأخراً وتحديداً بعد قرابة خمس سنوات من التدخل الغربي وسيطرة الجماعات المسلحة على أكثر من 60% من أراضيها، فإن بوتين نجح عسكرياً وبمظلة الفيتو الأممي الذي شل أي تحرك مضاد له على الأرض، كما كان هدف الروس أوضح وأكثر صراحة، ويتمثل بحماية النظام السياسي السوري ومؤسسته العسكرية، في حين أن الغرب كان مشتتاً بين دعم عشرات الفصائل المتناحرة أصلاً ودون أن يكون لها أي مشروع سياسي سوى إسقاط النظام مع غياب أي بديل واقعي أو ممكن التحقيق، الأمر الذي من شأنه تكرار التجربة الليبية، وما خلفه سقوط نظام القذافي من فراغ سياسي وأمني وفي النهاية ضياع البلد بمن فيه.
الروس كانت لهم نظرة استراتيجية أيضاً تمثلت بمحاربة الجماعات المسلحة، ومنها المقاتلون النازحون من الجوار الروسي خارج أرضهم، في حين كانت نظرة الغرب قائمة على التناقض المزدوج، فتنامي الجماعات الدينية وميليشياتها في سورية قد يمكنها من غزو حلفائهم الغربيين في عقر دارهم تماماً مثل ما حدث مع حركة المجاهدين في أفغانستان ثم وصولها إلى عمق نيويورك ولندن وباريس وبرلين.
الروس بذلك كانوا أكثر وفاءً لحلفائهم لكن الولايات المتحدة وحلفاءها باعوا أصدقاءهم وتركوهم بين ليلة وضحاها في كماشة حلب التي سجلت بداية النهاية للحرب السورية، وبوتين كان أكثر ذكاءً وفطنة واستشرافاً للمستقبل من عتاة خبراء الاستراتيجية الغربية، فالرئيس الروسي قرأ مؤشرات الرأي العام الأميركي والأوروبي بشكل أفضل من قادة هذه الدول، فراهن على المد اليميني القادم الذي من شأنه أن يتحول إلى أحجار الدومينو تباعاً بعدما سقط أول حجر مع فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، فقرر أن ينهي المعركة العسكرية سريعاً ليتفرغ إلى الترتيبات السياسية في وقت لاحق من السنة الجديدة.
حتى في الترتيبات السياسية نجح بوتين في إحداث اختراق سريع ومهم من خلال إعلان وقف إطلاق النار وتوثيقه بقرار من مجلس الأمن، وذلك من خلال التفاوض المباشر في حلقة رباعية صغيرة جداً اقتصرت على تركيا وإيران، ونجح في اصطياد معظم الفصائل المسلحة عبر الشبكة التركية، تاركاً «النصرة» و«داعش» بظهر مكشوف تماماً.
عجيب أمر التاريخ فعلاً، فالروس ومنذ عهد الاتحاد السوفياتي، نجحوا عندما ساندوا ودعموا الحركات السياسية العربية ضد أنظمتها، في حين خذل الأميركيون والبريطانيون هذه الأنظمة الموالية لهم فسقطت الواحدة تلو الأخرى، واليوم الروس يصمدون في دعم الأنظمة الحليفة لهم في حين ترك الغرب حلفاءه من التيارات والفصائل المناوئة لحكوماتها، فخرجوا جميعاً من «مولد» الشرق الأوسط بلا حمص!