سائقو التاكسي في أي بلد هم الدليل لقياس أوضاعه، حالتهم الشعبية ونظرتهم للحياة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وفي سيارة التاكسي التي أقلتني في طريق العودة من ڤراديرو إلى هاڤانا، عاصمة كوبا، قبل عامين، مررت بمعامل النفط والغاز الممتدة على الطريق الساحلي بشاحناتها ومعداتها. كان السائق يضبط إيقاع الراديو على الموسيقى، قبل أن يشير بأصابعه إلى مبان ممتدة على ساحل البحر وقال: هذه المنازل كانت ملكا لأمريكيين وأوروبيين رجال أعمال أثرياء قبل الثورة الشيوعية، ولأن الأمور تغيرت بعد الثورة فقد شعروا بالضغوط ورحلوا وتركوا منازلهم. كانت الحياة صاخبة جدا بالأمريكيين هنا قبل الثورة، انظري هناك، كل هذه المنازل الفاخرة الممتدة على طول الساحل هي ملك للحكومة الآن، تستخدمها في الترويج السياحي، إنها غالبا صامتة ميتة فلا أحد يأتينا هنا طوال المواسم بالشكل الذي يعوضنا هذا الفقر الاقتصادي الذي نعيشه! هكذا كان يتذمر الكوبيون ويعلقون آمالا على أخيه راؤول.
قد تكون الثورات قيدا لأنها تحمل معها صراعاتها مثل: الاشتراكية أمام الرأسمالية. وهذا تماما ما عاشته كوبا طوال عقود من عمر ثورتها بقيادة الراحل قبل أيام فيدل كاسترو. وها هي الآن كوبا تعيش أبعاد ثورة اقتصادية جديدة مع أخيه راؤول كاسترو. فبعد أن كان الحزب الشيوعي يحكم قبضته على التجارة والتوظيف وأدوات الإنتاج، أفسح مجالا للمشاريع الصغيرة والأعمال الحرة للكوبيين من منازلهم وهي التي تتحدى النموذج الحكومي. أمام كوبا، بعد موت أيقونتها الثورية طريق طويل للتطهر دونما عقبات. هي الثورة التي أفقرت الجزيرة وحرمت أجيالا من الكوبيين الحرية وفرص العمل. ولا سيما وقد قضى فيدل كاسترو السنوات العشر الأخيرة يعمل – من مقر تقاعده في الضواحي الغربية لهافانا – على عرقلة خطوات الإصلاح التي بدأها أخوه راؤول كاسترو على استحياء منذ تنحيه بداعي المرض قبل عقد من الآن. موت كاسترو هو رمزية تراها في احتفال راقص لشباب كوبيين في شارع بنيويورك، من الذين يتمنون حياة طبيعية وصحافة حرة وحقوق إنسان أساسية. لكنه بالنسبة لليسار في العالم حزن بطابع رمزي أيضا، ولا سيما أن كثيرا ممن يمثل اليسار في العالم هو بصيغة أو بأخرى معاد لأمريكا التي كان يعاديها الثوري الراحل.
لا شك أن التاريخ سيذكر فيدل كاسترو بصفته أحد الذين تركوا بصماتهم عميقة على القرن الـ 20، القرن الذي شهد تبدلات وتحولات كبرى. كيف لا وهو الذي شكل رمز إلهام للكثير من الحركات الثورية في العالم، وهي التي دعمها وصديقه الراحل أرنستو تشي جيفارا. كان كاسترو أملا كبيرا في وقت كانت فيه المبادئ الثورية “يوتوبيا” يحلم بها المقهورون من الشعوب في العالم. لكن هذه المبادئ التي تدغدغ مشاعر الناس اصطدمت بالواقع المرير حين تحول الثورات القمع محل الفكر. وهذه مع الأسف نسخ الثورات التي حملت الطابع ذاته، وعلى رأسها نسخة الثورة الإيرانية، حين تتبدل السمات الثورية باحتكار السلطة، وقهر المعارضين، وتعدد الأزمات الاقتصادية، والتصفيات والعنف. وحيث لا يبدو العنف مجرد ضريبة للتغيير وإنما جزء من المشروع الثوري بطبيعته البدائية البشرية المكبوتة. وبذلك تتحول الثورة إلى حكم بوليسي، يصفي الأحزاب والمعارضة، ما يعكس تماما تفاصيل المشروع الرئيس المحارب للرأسمالية، والأخيرة ترعى المعارضات وتقدم الحريات. الحكم في كوبا لم يختلف عن الحكم في عديد من الدول، ومنها العربية والإسلامية التي ثارت في زمن ما في القرن الـ 20. لقد ألغت تناوب السلطة، ليصبح بيروقراطيا كليبيا والعراق وسورية، أو ثيوقراطيا كإيران، مع نسخة رديئة في الحقوق المدنية والحريات والفقر الاقتصادي. فهل ما زالت الثورة« يوتوبيا» ضائعة دون رموز في القرن الجديد؟