كان رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي على وشك مغادرة منصبه، حين أصدر المرجع الديني الشيعي آية الله السيستاني فتوى بوجوب التطوع للدفاع عن المراقد المقدسة. هذه الفتوى التي قد تعتبر رفعا للصوت الطائفي، كانت أيضا بمنزلة صبغة شرعية للمالكي ليقوم بضم أكثر من مليون شاب شيعي عاطل عن العمل، كثير منهم قادم من ميليشيات متعددة، تحت ما يعرف الآن بالحشد الشعبي. وهو تشكيل مستقل يرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة ويشتمل على ألوية وفرق وهيئة أركان. الرواتب المجزية التي قدمت لهؤلاء مكنت المالكي من امتصاص غضب أهالي الجنوب من فشل حكومته. كيف لا وقد فتحت بيوت هؤلاء العراقيين ورفعت مستوى حياتهم المعيشية. هذه الفتوى كان ظاهرها حماية العراق أما باطنها فخدمة الأمن القومي الإيراني. وقد جاء من بعده حيدر العبادي ليدعم ذلك التوجه.
نشأت معظم الميليشيات الشيعية بعد الغزو الأمريكي للعراق وتحت أغطية مختلفة. لكنها لم تبتعد عن هيكل السلطات الأمنية والسياسية في العراق. قتال “داعش” هي المهمة التي حملت أيضا جرائم طائفية في محافظات العراق السنيّة العربية. و”داعش” كان حصيلة أجندات سياسية متداخلة مختلفة، لكن الرابح الأكبر والأوفر حظا هو بلا شك النظام الإيراني الذي يلعب على عدة جبهات. ومع انحسار “داعش”، الذي تحول من مرحلة الهجوم إلى الدفاع والتقهقر والانكفاء سيبقى السؤال حول مستقبل جميع الميليشيات. وقد ظهر حيدر العبادي في تصريح مثير للعراقيين يبشرهم بأن ظاهرة الميليشيات ستختفي من العراق خلال هذا العام. وهو ما يثير أسئلة أخرى حول طبيعة دور الميليشيات الرسمية منها لاحقا. ولا سيما أن مشروع ترسيخ دعامة ميليشيات الحشد الشعبي كقوة عسكرية وأمنية رئيسية متنفذة في العراق هو بلا شك جزء حيوي من مشروع إيران لتصدير “الثورة الإسلامية” في العراق، إضافة إلى مساعيها في اليمن من خلال ميليشيات الحوثي. وتبدو التعبئة الإعلامية الطائفية جلية لتضخيم دور ميليشيات الحشد في المعارك ضد “داعش” أمام تجاهل متعمد للجيش العراقي نفسه، مع وصفهم الحشد “خامس أقوى قوة ضاربة في العالم” في استنساخ لمقولة وصفت الجيش العراقي خلال حرب العراق مع إيران في الثمانينيات.
الميليشيات المدججة بالأسلحة في المنطقة، التي تشبه بعضها في البدايات والمراحل “حزب الله” اللبناني هي خطر على استقرار الدول والمنطقة حتى وإن ذابت في مؤسسات الدولة العسكرية، لأن سلاحها لن يكون بالضرورة تحت إمرة الدولة أو مصلحتها الوطنية. وقد قام زعماء الميليشيات السابقة بعد انحسار خطر القاعدة بإضعاف الحكومة لاحقا بعرقلة المشاريع والسير بعيدا عن سياساتها. الامتيازات المالية والمعنوية وهالة القداسة والحصانة التي منحت لميليشيات الحشد الشعبي، يعني باختصار تعميقا لحكومة الظل الدينية في العراق. وقد سبق وبإيعاز من إيران أن أعلن عن التحاق مسلحي الحشد الشعبي بجبهات القتال في حلب إلى جانب الأسد، عوضا عن التصريحات الأخيرة، التي ذكر فيها قادة الحشد أن المحطة القادمة بعد معركة الموصل في حرب “داعش” هي مدينة الرقة السورية. هذا إلى جانب وجود قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني لتنسيق عمليات الحشد الشعبي والإشراف عليها في معارك العراق. وبرغم ادعاء تعددية مذاهب وأعراق الحشد الشعبي، إلا أن إضفاء الشرعية القانونية على الحشد «ميليشيات» سيفتح المجال أمام بقية الميليشيات السنية والكردية والإيزيدية وغيرها للمطالبة بمنحها ذات الحقوق والامتيازات، أو سيعتبر ذلك انحيازا طائفيا يعمق حالة الصراع. إذ بمجرد تحرير الموصل والقضاء على “داعش” سينتفي بذلك السبب الرئيس لاستمرار هذه الميليشيات وستخسر الغطاء الذي يمنحها شرعية البقاء.