قلب ترامب المعادلات، لقد صدمت الهزة الانتخابية نصف الشعب الأميركي الذي صوت لكلينتون، وصدمت الانتخابات النصف الثاني الذي انتخبه ولم يكن يتوقع فوزه.. مع إعلان فوز ترامب وضح أن الأميركيين يرسلون رسالة كبرى للنخبة الأميركية المتمركزة في المدن والتي أهملت الأرياف والقرى والبلدات التي تسكنها الطبقة العاملة البيضاء والتي أيضا استكانت في سلوك عرف عنه الخضوع للنفوذ والدعم المالي.
لم تستطع النخبة الأميركية أن تستوعب أن الكثير من الأميركيين أرادوا التغيير بأي ثمن، وأنهم أرادوا التخلص من النخبة السياسية بما فيها نخبة كلينتون. كان بإمكان الحزب الديمقراطي تعديل بعض شعاراته ليكسب بعضاً من الجمهور الأبيض غير المتعلم وجمهور الأرياف. ذلك الجمهور الأبيض جذبته شعارات ترامب حول الاقتصاد والوظائف.
مع مجيء ترامب ستأتي نخبة أكثر تعصبا ويمينية وأكثر تركيزا على المحلي والأميركي وأكثر دعما لإسرائيل، شعار عودة أميركا قوية يثير التساؤلات. فالتيار الشعبي الذي لا يقبل بالتفرقة والتمييز ويؤمن بالمساواة في الولايات المتحدة بدأ يتحرك نحو الشارع محاولاً بناء توازن في مواجهة رئيس يميل لديه مواقف مسبقة من الأقليات والملونين واللاتينيين والمرأة. في هذه الأجواء ستشهد الولايات المتحدة أكبر حراك سياسي واجتماعي منذ حركة الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين.
ومن أسباب غضب المعسكر المعارض لترامب أن الحزب الديمقراطي لم يتبن ساندرز، بل أقصاه لصالح كلينتون، كان ساندرز الوحيد من الديمقراطيين الذي جاء من خارج النخبة، فهو مثل ترامب لكنه من اتجاه معاكس. لقد حمل ساندرز رسالة الشارع وتحدث عن العدالة والقيم في الداخل والإنصاف في الخارج. ربما لو تم اختيار ساندرز كمرشح للحزب الديمقراطي لكان بإمكانه مواجهة ترامب بفعالية أكبر وإقناع جمهور الطبقة الدنيا من الأميركيين البيض ببرنامجه حول العدالة.
لم يسبق لرئيس أميركي أن بدأ عهده في أجواء من الهرج والسخرية. ترامب انفعالي ومستعد لممارسة سياسات متناقضة تجاه العرب والشرق الأوسط وتجاه روسيا وتجاه سوريا وإيران. سيكون صعباً على دولة المؤسسات الأميركية أن تستوعب جموح ترامب. من هنا خطورة المرحلة الأولى من رئاسته التي لن تتضح أبعادها إلا عندما يعلن الرئيس عن هوية الوزراء والتعيينات في الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي وغيره.
على العرب أن يعوا بأن اعتمادهم على الولايات المتحدة سيحمل لهم مزيدا من المفاجآت، وأن النظام الدولي بحد ذاته في حالة تغير وإعادة تشكيل. فترامب لا يشبه أيا من الحكام الذين تعامل معهم العرب منذ زمن أيزنهاور والاتفاق السعودي الأميركي عند نهاية الحرب العالمية الثانية. سيكون الرئيس الجديد أكثر إصرارا على شراكة الخليج في شؤون مالية حول الدفاع والأمن. بل قد يدفع ترامب العرب نحو الصين وروسيا، وسيكون من الصعب بنفس الوقت سحب الاستثمارات العربية وتغيير مسار بنته عقود من التحالفات، الاعتماد والضعف العربي سيضع العرب في موقع أشد صعوبة في ظل رئاسة ترامب.
على العالم العربي أن يتجه نحو إصلاح حاله أولا، فإن كانت النخبة الأميركية تكلست مما أنتج رفضا شعبيا لدورها، فماذا عن النخب العربية التي تجمدت في لعبتها السياسية وأسلوب تعاملها مع الخارج والداخل بينما شارعها العربي يبحث عن التجديد؟ بلا انفتاح العرب على حركة المجتمعات وضرورات الإصلاح السياسي السلمي بهدف بناء المساءلة وتقدير التنوع والحريات، فالعالم العربي سيكون أكبر الخاسرين من جراء التغيير الذي يضرب النخبة الأميركية.
انتخاب ترامب سيدخل الولايات المتحدة في حالة صراع حول الحقوق والهوية والمستقبل، وهذا سيؤسس لمواجهة مع خط اليمين الأميركي وموضوعاته الشعبوية. التعامل العربي مع التغير الأميركي لن يكون ممكنا بلا الانتقال نحو الحريات وفتح المساحة الديمقراطية أمام عموم الناس والمجتمع بهدف بناء واقع قادر على مواجهة التحديات القادمة.