في أكتوبر من كل عام، يزورنا تقرير ديوان المحاسبة المزخرف بمجلدات لها هيبة ووقار، تحمل دلائل صريحة بالأرقام بشأن المخالفات والتجاوزات والتعدي على المال العام التي ارتكبت من قبل بعض وزارات ومؤسسات الدولة، فضلا عن تفاصيل كوارث أسباب تعطيل المشاريع التنموية.
السؤال هنا يتسيد التفكير.. منذ إنشاء ديوان المحاسبة، كم تقريرا وتقريرا يحمل أدلة وتجاوزات وتعديا على حرمة المال العام؟ وما مصير تلك التقارير؟ وهل تمت محاسبة الفاسدين الذين تعدوا على المال العام بإحالتهم إلى القضاء؟
طبعا الأسئلة في هذه القضية لا تعد ولا تحصى، ولكن نكتفي بتلك الأسئلة الصغيرة، لعل وعسى ان نجد إجابات تقنع كل من يسأل عن هذه القضية المهمة حسبما أراه على اعتبار ان ديوان المحاسبة جهة رقابية تكشف التجاوزات في كل وزارات ومؤسسات الدولة ومشاريعها.
لو أتينا إلى جواب السؤال الأول: جاء إنشاء ديوان المحاسبة في يوليو سنة 1964 بقانون رقم 30 لسنة 1964 أي قبل 51 عاما، هذا يعني أن ديوان المحاسبة قدم أكثر من 50 تقريرا تكتظ بالتجاوزات والمخالفات خلال 50 عاما على اعتبار أن تقرير 2015 مازال في طور الإعداد.
لو أتينا إلى جواب السؤال الثاني: مصير تلك التقارير تحال كل عام للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وأحيانا تشكل لجان مصيرها الحفظ، ومن ثم تتكدس المجلدات بالأدراج، وبعض النواب على مدى سنوات طويلة يستخدمها كوسيلة للابتزاز والتهديد بالاستجوابات لتحقيق رغبات ومطالب خاصة من قبل الوزراء وغالبا ما تكون للتكسب الانتخابي، منها تكمن في التعيين في المناصب القيادية.
لو أتينا إلى جواب السؤال الثالث: لم أسمع عن أي محاسبة أو إدانة فعلية لأي مسؤولين تمت نتيجة تجاوزات مالية أكدها تقرير ديوان المحاسبة.
وحتى أكون منصفا لا بد أن اطرح سؤالا قد يكون غير منطقي لدى البعض الا أنه يفرض نفسه في رأيي.. مادام تقارير ديوان المحاسبة لا تفعل ولا تحرك ساكنا، والتجاوزات تتكرر في كل عام ولم نر أي محاسبة للمتجاوزين على المال العام.. إذن ما فائدة وجوده من دون منحه صلاحيات إحالة التجاوزات للنيابة العامة؟ هل هو مجرد واجهة نتحدث عنها لتكتمل صورة الرقابة على المال العام ولو كان مجرد جهة تعمل والمضمون «مفيش حاجة». لو أتينا للمشاريع التنموية، نجد أن الديوان أكد ان بعض المسؤولين لا يملكون القدرة على اتخاذ قرار تنفيذ المشاريع رغم وجود مخططاتها، الأمر الذي جعل الديوان يقوم لأكثر من مرة بتسجيل جملة من الملاحظات والمخالفات في تقاريره بشأن بعض المشاريع التنموية التي لم يتم إنجازها وفقا للجدول الزمني المحدد لها، وأسبابها تكمن في عدم محاسبة المسؤولين عنها، خاصة ان هناك أوامر تغييرية طرأت دون إبلاغ الديوان لأنها تحمل شبهات.
منذ أيام رئيس ديوان المحاسبة السابق المرحوم براك المرزوق كان يطالب مجلس الأمة آنذاك بتشريع قانون يمنح لديوان المحاسبة صلاحية إحالة المخالفات للنيابة العامة بهدف تفعيل التقرير وإصلاح الاعوجاج والتعدي على المال العام إلا انه لم يحصل على هذا المطلب الإصلاحي.
والحقيقة ان رقابة الديوان لا تكتمل ولا تفعل إلا إذا منحوا صلاحية الإحالة للنيابة العامة وفق ضوابط تكمن بالأدلة، خاصة ان هذا الإجراء يعتبر من صميم عملهم الرقابي.