قمة المأساة السياسية والأخلاقية أن تصبح الحكومة وبكل مؤشرات العجز والفشل والفساد التي تحملها، أكثر نظافة ونزاهة من مجلس الأمة، ولو في بعض القضايا، وخصوصا المهمة وذات العلاقة بالمصالح العامة للدولة والناس، فما نراه اليوم من بعض السلوكيات والمواقف النيابية عكس الآية وحول المعروف منكراً والمنكر معروفاً على صعيد مبادئ الدستور والمنطق، إذ يفترض أن تكون السلطة التشريعية هي العين الرقابية على أداء الحكومة وجهة المحاسبة والمسائلة لوزرائها، لا أن تكون قاعة عبدالله السالم هي المظلة لحماية الفساد والغطاء السياسي للشبهات خصوصا ما يتعلق بالمال العام.
قرار مجلس الأمة لتحديد جلسة 10 مارس القادم لمحاسبة الحكومة على خلفية وقف بعض المناقصات الكبيرة بات يهدد أركان الدولة، وما تبقى من هيبتها واحترامها، فالكل في الكويت الصغير قبل الكبير يعرف أن الكثير من المناقصات والصفقات الحكومية تفوح منها روائح التنفيع والفساد، وأثبتت الكثير من تجاربنا مع المشاريع الكبرى بشكل قاطع المبالغة المفرطة في الكلفة المالية، والتأخير غير المبرر في تنفيذ الأعمال والأخطاء القاتلة في المنتج النهائي التي تجعل منه مجرد ركام أسمنتي أو خربة تنفق على تصليحها مبالغ تساوي قيمة بنائها، وأكثر الناس تعلم أنه رغم كل ذلك لم تتم محاسبة أي شخص أو جهة على هذه التجاوزات الواضحة وضوح الشمس!
لكن عندما تبدأ بعض الجهات مثل لجنة المناقصات المركزية أو ديوان المحاسبة أو الوزراء باجتهاداتها الشخصية لوقف المشاريع المشبوهة، كما هي الحال في مشروع المطار الذي أشرنا إليه في المقال السابق، تقوم قيامة بعض أعضاء مجلس الأمة لتصل إلى حد تهديد الوزراء للتراجع حتى عن بصيص الأمل في بعض الخطوات الإصلاحية.
المجلس الحالي هدّد أم لم يهدّد، ناقش موضوع وقف المناقصات أم صمت، استجوب أم تراجع، فهو والعدم سواء، فلن يحرّك حتى قشة سياسية، ولن يزحزح أي وزير ولو شبراً واحداً، ولكن من الحيف أن تُستغل السلطة الرقابية الشعبية وإرادة الأمة وتاريخ الديمقراطية الكويتية في مثل هذا الاتجاه السخيف.
كنا نتأمل ولو من البقية الباقية من نواب هذا المجلس أن يكون طلب المناقشة منصبّاً على تفسير المبالغ الفلكية للمشاريع الحكومية مقارنة مع بقية دول العالم القريبة والبعيدة، الغنية والفقيرة، الديمقراطية والسلطوية، وأن يرغم المجلس الحكومة على توفير المعلومات المالية والمواصفات الفنية والجداول الزمنية لمشاريعنا ومشاريعهم المتشابهة، والكشف عن كيفية تمرير هذه الصفقات والوقوف على أسباب تعثرها، ومن ثم الشد على يد الحكومة في الإصلاح ولو الجزئي منه، وأخيراً التفكير في بدائل أخرى لتنفيذ مشاريع الدولة الحيوية وفق آليات وقنوات أكثر شفافية ودقة، بدلاً من هذه المسرحية الهزيلة، ولله در القائل:
بالملح نداوي ما خرب … آه إذا الملح اخترب!